تكملة الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــ
عرِّج على حرم القرب بقوة مطيّة الصدق قامعاً صفوف الوهم بعساكر الهمّة، متلفتاً عن دوائر الأكوان، مشتغلاً بمراقبة المكوّن، معتصماً بحبله من القطيعة حاملاً راية الافتقار إليه مُتجرداً من حجاب الزوجة، من حجاب الولد، من حجاب المال، من حجاب وجودك، من حجاب يقظتك، من حجاب غفلتك، فإن رؤياك اليقظة غفلة عظمى، ورؤياك نورك ظلمةٌ وهمّ، كل شيء لك حجاب فافتح منه باباً إلى المقصود، وكل مقصودٍ حائل فتجرد منه إلى المعبود بحق، ونقل عنه جامع البرهان هذا البيت:
كل العلوم إذا تخللها السِوى *** صارت لداعي الانفصال معالما
ونقل الثقات من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين أنه كان يقول: التوحيد وجدان عظيم في القلب يمنع من التعطيل والتشبيه، وكان يقول:" الفقير إذا انتصر لنفسه تعب وإذا سلّم الأمر لمولاه نصره من غير عشيرةٍ ولا أهل "، وكان يقول: " أقرب الأشياء إلى المقت رؤية النفس وأحوالها وأعمالها، وأشد منه طلب العوض على العمل" " وكان يقول: " كل من ادّعى ولم يقم الفقير غنياً من عنده والغني فقيراًُ فليس على شيء، وكان يقول: " الدعوى رعونة في الباطن لا يحتمل القلب إمساكها فيلقيها إلى اللسان فينطق بها لسان الأحمق "، وكان يقول: " إياكم والفرح بالشهرة وكثرة المعتقدين والمحبين، فكم طيّرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس وكم أذهبت من دين "، وكان يقول: "طريقنا مبنية على ثلاث: لا نسأل، ولا نرد، ولا ندّخر"، وكان يقول: "ظُلمة الطبعِ تمنع أنوار المشاهدة"، وكان يقول: "استحسان الكون على العموم دليل على صحة المحبة، واستحسانه على الخصوص يورث الظلمة". وكان يقول: "الصدق له حالٌ ومقام فحاله التلوين ومقامه التمكين وكلاهما زين إلا أن المقام المرتبة الثابتة فافهم".
وكتب رضي الله عنه كتابا إلى الشيخ الأجل عبد السميع الهاشمي الواسطي قدّس سرّه يوصيه به قال فيه: مَن صمّ أسماعه عن أصوات الأغيار سمع نداء لمن الملك اليوم، فنزل عن فرس كذبه وعجبه وأنانيته وحَولِهِ وقوّته ووحدته وانقهر في مقام عبوديته، إياك والقول بالوحدة التي خاض بها بعض المتصوفة إياك والشطح فإن الحجاب بالذنوب أولى من الحجاب بالكفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) إذا رأيت الرجل يطير في الهواء فلا تعتبره حتى تزن أقواله وأفعاله بميزان الشرع، إياك والإنكار على الطائفة في كل قولٍ وفعل، سلّم لهم أحوالهم إلا إذا ردّها الشرع فكن معه، التكلم بالحقائق قبل هجر الخلائق من شهوات النفوس، من عدل عن الحق إلى الباطل تبعا لهوى نفسه فهو من الضلال بمكان، والزهد أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل.
وقال في كتابه طريق السائرين إلى الله: الولي الجامع لا يرى بعد تمكنه في مقام النهاية نعمة الله فيه آخذاً بسبيل نبيه صلى الله عليه وسلم الذي سلكه بأمر ربه لما قال له تعالى في القرآن: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلَي} فسقطت الفرقية النوعية بالمثلية الآدمية وشوهدت النعمة القدوسية بذكرها المجمل، والذي أراه أن الولي الجامع الكامل مع انحجابه عن رؤية الفرقية وتحققه بشهوده النعمة يتأدب أن يذكرها بل يعترف بها ويقوم بشكرها للمنعم تعالى إلاّ إذا جهل أهل مصره أو أهل عصره قدر نعمة الله عليه فخاف عليهم الوقوع في ورطة، من آذى لي ولياً فقد حاربني، فهنالك يتحدث بالنعمة مُراعياً هذه الحكمة صارفاً وجهة القلب عن الزهو والعجب والعلو على الأمثال مقتبساً من أشعة نور الهدى المحمدي، مُنطمساً في نفسه لا تحركه زعازع النخوة، ولا تهشه عواصف الأكوان، ويتساوى عنده مع ثباته على الحق المدح والذم والذل والعِز والفقر والغِنى عِلماً بأن القدرة الأزلية النافذة لله تعالى وحده والعبد عجز وضعف، وخُلق الإنسان ضعيفاً وتسليماً للحاكم الآمر الفاعل المطلق الذي لا قيد يمنع نوافذ أحكامه وأوامره، وأفعاله إن ربك على كل شيء قدير.
أخبرني الشيخ العارف أبو زكريا جمال الدين الحمصي أن شيخه العارف بالله الحجة القدوة الإمام عز الدين أحمد الصياد سبط القطب الغوث المحتفل أبي العباس السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنهم أن جده سيدنا السيد أحمد الكبير قال على كرسي وعظه في أم عبيدة: قد آن أوان زوال هذه المجالس ألا فليخبر الحاضر الغائب من ابتدع في الطريق وأحدث في الدين وقال بالوَحدة وكذب متعالياً على الخلق وشطح متكلفاً، وتفكه فيما نقل عن القوم من الكلمات المجهولة لدينا، وطاب كاذباً، وخلا بامرأة أجنبية بلا حجة شرعية، وطمح نظره لأعراض المسلمين وأموالهم، وفرّق بين الأولياء، وبغض مسلماً بلا وجهٍ شرعي، وأعان ظالماً، وخذل مظلوماً، وكذّب صادقاً، وصدّق كاذباً، وعمل بأعمال السفهاء وقال بأقوالهم فليس مني أنا برئ منه في الدنيا والآخرة وسيدي الشيخ منصور برئ منه والنبي عليه أفضل صلوات الله برئ منه والله برئ منه، والله على ما نقول وكيل.
حدثني الرجل الثقة العدل الصالح عبد المنعم البطائحي الحدادي، قال: أخبرنا شيخنا الإمام الجليل جمال الدين الخطيب، قال: كنا ذات يوم في مجلس سيدنا السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي الله عنه فجرى ذكر المشايخ فسألناه عن الشيخ أحمد الزعفراني فقال: رجل أخلص لله فأطلعه الله على بعض غيوبه وجعله من الأوتاد، فقلنا: والشيخ عمر أبو الفرج الفاروثي؟ وكان من أصحابه فقال: ما فيه نفَسٌ لغير الله تعالى وقد جعله الله من أمراء الرجال، قلنا: والشيخ حياة بن قيس الحرّاني؟ قال: عبد كامل وقد جعله الله من ملوك الرجال وهو كالغيث أين وقع نفع، قلنا: والشيخ أحمد الأزرق الزاهد ابن الشيخ منصور الرباني الباز الأشهب؟ قال: يصافح النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات وهو من ملوك الرجال أيضا، قلنا: والشيخ عبد القادر الجيلي؟ قال: رجل بحر الشريعة عن يمينه وبحر الحقيقة عن يساره ومن أيهما شاء غرف هو في حاله ودلاله لا ثاني له في عصرنا وهو من ملوك الرجال، قلنا: والشيخ على الهيتي؟ قال: أتم من الشيخ عبد القادر مقاماً والشيخ عبد القادر أتم منه حالاً وهو عبدٌ كامل انصرفت إليه سحائب العوارف وما اشتغل بشيء منها عن الله تعالى طرفة عين وهو من ملوك الرجال، قلنا: والشيخ إبراهيم الأعزب؟ وهو سبطه رضي الله عنهما، قال: أكمل أهل عصرنا هذا مقاماً وأتمّهم حالاً تجرّد من عوائق الأكوان أخذ بأثر نبيه صلى الله عليه وسلم القدم وراء القدم وهو من ملوك الرجال، قلنا: والشيخ أبو شجاع الشافعي الفقيه وكان من أصحابه قال رجل عكف على باب الشريعة فأكل من ثمار الحقيقة، ووصل إلى الغاية، وما انصرف عن الظاهر آونة، ظاهره الشرع وباطنه الشرع وهو الكامل المحبوب، فقام الشيخ تقي الدين فقيه النهر فقال: بالله يا سيدي إلا ما أخبرتنا عن سيدنا يعني
السيد أحمد رضي الله عنه فقال: ومن أنا يا تقي الدين يتيم وضيف في البيت ويطلب ميراثاً، فقال كل من في المجلس: أي سيدنا أقسمنا عليك بالعزيز سبحانه إلا ما أخبرتنا عمّا منّ الله به عليك، فقال: أقسمتم بعزيز وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم، أي سادة لمّا اجتمع القوم وطلب كل واحد شيئا دارت النوبة إلى هذا اللاش أحمد وقيل: أي اطلب، قلت: أي ربي علمك محيطٌ بطلبي، فأعطاني ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر من أهل هذا العصر.
توفى يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بأم عبيدة، ودُفن في قبة جده لأمّه الشيخ يحيي الكبير النجاري الأنصاري رضي الله عنهما، وله من العمر ستة وستون وستة أشهر وأيام، وكان آخر كلامه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت كراماته الجليلة مستمرة وعوائد عواطفه مستفيضة.
أخبرني الشيخ الجليل الإمام العدل أبو البركات محمد الهاشمي العباسي، أن الشيخ الجليل القدر أبا المظفّر منصور بن المبارك الواسطي قدّس سرّه جاء عام وفاة السيد أحمد الكبير إلى أم عبيدة ووقف على قبر القطب المشار إليه وأنشد في ملأٍ عظيم من الناس:
سرت ناقتي ليلا فسبحان من أسرى *** إلى الساحة القعساء والحضرة الكبرى
وحطت حمول السير مثقلة على *** أريكة باب دونه جبهة الخضرا
أنخت بها والفجر سلّ على الدُجى *** نصالاً فيا لله ذا الفجر ما أجرى
عجبت لضوء الفجر كيف تقشّعت *** به مثقلات العتم عن منكب الغبرا
كان محيا الصبح والشمس حوله *** جبين الرفاعي ابن فاطمة الزهرا
إمام به تجلى الخطوب وينطوي *** بساط ذنوب طالما أوهن الظهرا
عليك بقرم القوم من آل هاشم *** تذل لك الدنيا وتحلو لك الأخرى
من الزهر ميمون النقيبة سيد *** تلوح على بيضاء غرته البشرى
ترى شوس أهل الله تحت لوائه *** فهم جنده براً وعماله بحراً
لقد أمهم في مسجد القرب مرشدا *** كما أم طه الأنبيا ليلة الإسرا
تذكرنا بالمعجزات فعاله *** وإن أخا الإيمان تنفعه الذكرى
عظيم قريش شيخ منبرها الذي *** مناقبه تتلى وآياته تُقرا
إذا زرته زرت الحسين وصنوه *** وشاهدت عنوانا عن المرتضى جهرا
من القارعين الخصم والنبل ماطر *** من الحافظين الجار والدار لا تُدرى
من الجعفريين الجحاجحة الأولى*** أبو العمة السوداء والهمة الغرّا
توسل به لله واضرع بجاهه *** إلى الله في الضرّا وبشراك بالسرّا
هو الغوث والغيث المريع ومنتقى *** خزانة طه اليوم والفذة الخضرا
هو الحجة الكبرى على كل قائمٍ *** أجل غيره في القوم حُجّته صُغرى
لئن ساءني عامي برزء وفاته *** فما ضر أني زرت عن عينه القبرا
به أتّقي سهم الزمان وأرتقي *** معاريج خيرٍ لا أحيط بها خُبرا
عليه سلامُ الله ما انفلق الدُجا *** بصبحٍ وشمَّ الناسُ من ذكره عِطرا
فظهر صوت من قبر السيد أحمد أحاط بالقبة المباركة يقول: وعليك السلام أه.
خلّفه في المشيخة برواق أم عبيدة ابن عمه زوج بنته شيخ العائلة الأحمدية أبو الفضل مهذِّب الدولة السيد علي ابن السيد سيف الدين عثمان الرفاعي الكبير رضي الله عنه، وقد أطبق أهل العراق على ولايته وهو في البطائح مقام خاله وعمه قام وارثاً عظيماً، ونائباً كريماً انتهت إليه رياسة هذا الوقت وقال بعض أهل العصر: إن ولده القطب المقرب محيي الدين أبا إسحاق إبراهيم الأعزب أكمل منه حالاً ومقاماً وهو الوارث لجده السيد أحمد الكبير، وكلهم الأئمة القادة، الأشراف السادة، ذرية بعضها من بعض، شجرة فرعها في السماء وأصلها ثابتٌ في الأرض، رضي الله عنهم أجمعين، ونفعنا الله بهم والمسلمين، وحشرنا مع عباده الصالحين آمين، ورصّعها عبد الكريم بن محمد الرافعي في شهر رجب الأصم عام ثمان وثمانين وخمسمائة وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- العيلم: البحر، وفيه إشارة إلى السيوطي والرافعي رحمهما الله.
- سمي بأبي العلمين لأنه رفع لواء الغوثية مرتين، مرة قبل وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، ومرة بعده.
- أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/352 وقال عقبة: غريب من حديث عمرو عن ابن جريج، تفرد به مروان، أه. وللحديث متابعات فقد رواه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب من فضائل موسى، والنسائي في سننه: كتاب قيام الليل وتطوع النهار: باب ذكر صلاة نبي الله موسى عليه السلام، وأبو نعيم في الحلية 6/253، و /333، والبيهقي في جزء حياة الأنبياء بعد وفاتهم ص/31 كلهم عن أنس بن مالك، ورواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، والبيهقي في جزء حياة الأنبياء بعد وفاتهم ص/32، وفي كتاب دلائل النبوة 2/358- 359 كلاهما عن أبي هريرة.
- أخرجه أبو يعلى في مسنده 6/147، والبيهقي في "حياة الأنبياء" ص/3 من طريق أبي يعلى والبزار في مسنده انظر كشف الأستار 3/100 وأورده الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 8/211 وقال: "رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات"، وذكره الحافظ العسقلاني في المطالب العالية برقم /3452 وعزاه لأبي يعلى والبزار.
- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، والبيهقي في الدلائل 7/172.
- أي الصوفية.
- أي مَلْجَئِنا.
- أي يتحرك.
- الجحجح والجحجاح: السيد.
- أي يُلجأ إليه.
- الغطريف: هو السيد الشريف.
- العصابة: الجماعة من الناس.
- الرُحلة: المقصد الذي يُقصد.
- السَّحُّ: الصَّبُّ والسيلان.
- هذا القيد يُحتاج إليه، فإن القرآن معجزة للنبي لكن لا يكون كرامة لولي.
- عقيدة الوحدة المطلقة عقيدة فاسدة يقول معتقدها أن الله والعالم شيء واحد وهذا كفر. قال الشيخ أبو الهدى الصيادي الرفاعي شيخ الرفاعية في وقته: "من قال أنا الله أو لا موجود إلا الله، أو هو الكل فإن كان في عقله حُكِم بردّته".