71- ثم قال سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه: "من الحكمة أن تودع المعروف أهله. ومن الصدق أن لا تمنعه غير أهله. وثمرة الصنيعين من الله تعالى".
72- "إذا أودعت معروفاً فلا تكفره فإنه ثقيل عند الله".
73- "ما أفلح مَن دس، ولا عَزَّ مَن ظلم، ولا يتم حال لباغ ولا يُخذل عبد رضي بالله وكيلا ونصيرا".
74- "مُشكك لا يُفلح ودسّاس لا يصل. وبخيل لا يسود. وحسود لا يُنصر. وكلب الدنيا لا يستولي على لحم جيفتها. والله محول الأحوال".
75- "غارة الله تقصم وتقهر وتدمر وتفعل وتقلب حال مملكة كسروية لكسر قلب عبد مؤمن انتصر بالله".
أراد سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه بقوله "من الحكمة أن تودع المعروف أهله" أي من الحكمة العقلية التي يطمئن إليها الطبع وتسكن لها النفس إيداع المعروف أهل الاستحقاق الذين يعرفون قدره ويقومون بواجبات شكره. وأراد بقوله "ومن الصدق أن لا تمنعه غير أهله" أي ومن الصدق مع الله سبحانه وتعالى أن تودع المعروف عباد الله المستحق منهم وغير المستحق لا لجزاء ولا لشكر بل لله جلت قدرته وأن تطلب ثمرة الصنيعين اللذين هما إيداع المعروف عند المستحق وغيره من الله تعالى. ويناسب هذا المعنى قول القائل:
يد المعروف غُنمٌ حيث كانت ففي شكر الشكور لها جزاءٌ | | تحَمّلها كفورٌ أم شكورُ وعند الله ما كفرَ الكفورُ |
وألزم سيدنا المؤلف بالاعتراف بالمعروف فقال "إذا أودعت معروفاً فلا تكفره" هذا إن كان المعروف كثيرا أو قليلا. وكفر المعروف تغطيته وستره وكتمانه وسر هذه الحكمة مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أودع معروفاً فلينشره فإن نَشَرَهُ فقد شكره وإن كتمه فقد كفره". وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس". وما أحسن قول القائل:
فلو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ لما أمر الله العباد بشكره | | لعزة ملك أو علو مكان فقال اشكروا لي أيها الثقلان |
وقال قدس سره "ما أفلح مَن دَسّ". الدس من التدسيس وهو إخفاء الشيء في الشيء. بيّن رضي الله عنه أن استعمال الدسيسة المضرة للناس المذمومة في الدين قاطعة لأسباب الفلاح وموجبة للخيبة والعياذ بالله. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10}(الشمس). أي قد أفلح من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية وقد خاب من دساها أي من دس نفسه في الفجور أو دس نفسه في الصالحين وليس منهم أو اشتغل بالمعاصي ودس أفعاله وأخفاها عن الناس ليظهر لهم صلاح حاله حياء منهم مع عدم الحياء من الله سبحانه وتعالى. وقال "ولا عَزّ مَن ظلم" أي لا يصل إلى مقام العزة المقبولة عند الله المحبوبة لدى النفوس مَن ظلم أي مَن غيَّر الموضوعات عن مواضعها فوضع الشيء في غير موضعه وعدا على الناس. وقد ورد أن أعظم دليل على سلب الإيمان والعياذ بالله كثرة ظلم أهل الإيمان وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا". وقال عليه الصلاة والسلام: "الظلمة وأعوانهم في النار". وقول المؤلف رضي الله عنه ولا يتم حال لباغ مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو بغى جبلٌ على جبل لدُكَّ الباغي منهما". وقوله ولا يُخذل عبد رضي بالله وكيلا ونصيرا يؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته". وقوله تعالى عز من قائل: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}الطلاق3. وقد أتبع سيدنا المؤلف كلامه الذي ذكر بقوله "مشكك لا يفلح ودساس لا يصل" أراد بذلك أن من كان على شك وريبة في أمره مع ربه لا يفلح أبدا لأن الفلاح مشروط بتزكية القلب وطهارة النفس قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }الشمس9. والدسّاس الذي يدس نفسه في زمرة الصالحين وأهل الحق وليس منهم لا يصل إلى حضرة الحق ولا يُحسب من أهل الحق وأنّى يكون له ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن تزين بعمل الآخرة وهو لا يريدها ولا يطلبها لُعن في السماوات والأرض". وقول المؤلف "وبخيلٌ لا يسود وحسود لا يُنصر" صريح المفاد ثابت المعنى عقلا ونقلا على أن السيادة لا تتم لبخيل على قوم. ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه سلم: "السخي قريب من الله تعالى قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار والبخيل بعيد من الله تعالى بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل". ويكفيك في هذا البحث قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ}آل عمران180. الآية. فإذن من كان بعيدا عن الله لا تتم له سيادة على الناس وأما الحاسد فهو أقبح من البخيل لأن البخيل يمنع ماله ويقطع نفعه عن الناس والحسود يغضب إذا انتفع الناس من الناس ولا يكتفي بذلك بل يريد زوال نعمة الله عن محسوده. وإذن مَن كانت هكذا سريرته ساءت بين الناس سيرته ومن ساءت سيرته قل شاكره وعز ناصره. والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا". وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس مني ذو حسد". الحديث. وقول المؤلف قدس سره في بقية كلامه"وكلب الدنيا لا يستولي على لحم جيفتها". شبّه الدنيا بالجيفة المنتنة وطالبها الحريص عليها بالكلب إشارة لما ورد في الخبر وهو: "الدنيا جيفة وطلابها كلاب". وإيضاحاً للمغرور بالأيام الحريص على الحطام أن إمكانه دون طلبه لأن "الدنيا دار من لا دار له ويبنيها من لا عقل له". كما جاء في الخبر كيف لا وأيامها زوال ولياليها تمر كالخيال. ويعجبني من هذا المعنى قول سويد بن عامر المصطلقي الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أدركته لأسلم". بما نصه:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم واسلك طريقك تمشي غير مختشع فكل ذي صاحب يوماً يفارقه والخير والشر مقرونان في قرنٍ | | إن المنايا بكفَّي كل إنسانِ حتى يبين ما يُمني لك المانِ وكل زادٍ وإن أبقيته فانِ بكل ذلك يأتيك الجديدانِ |
وانظر ما ألطف قول المؤلف رضي الله عنه: "والله محول الأحوال فإن هذه الكلمات أتت بعد الجملة الأولى مؤكدة لمعانيها مشيدة لمبانيها. وأتبعها بقوله "غارة الله تقصم" أي تقد وتقطع وتقهر وتدمر وتفعل كل أفعال القهر والبطش تعززاً وانفرادا بالقدرة والطول والقوة والحول وتقلب حال مملكة كسروية من العز والشوكة والرفعة والمِكنة إلى الخزي والذل بسبب كسر قلب عبد اعترف بعبديته منقطع عن الأغيار لسيده مؤمن متوكل بصدق الإيمان على الله وقد انتصر متجردا من حوله وقوته بالله ولا يبعد ذلك على قدرة الله إن ربك على كل شيء قدير.
76- ثم قال سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه: "كل الناس يرون أنفسهم فيُغان على قلوبهم فالمحمدي يستغفر ويدفع الحجاب، والمحجوب يزداد طمساً على طمس، والمعصوم من عصمه الله".
أشار بهذه الحكمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
قال الإمام عبد الرؤوف المناوي قدس سره في كتابه (التيسير على الجامع الصغير) عند شرح هذا الحديث ما نصه "أنه أي الشأن ليُغان بغين معجمة من الغين الغطاء (على قلبي) الجار والمجرور نائب عن فاعل يغان أي ليغشى قلبي وإني لأستغفر الله أطلب من الغفر أي الستر في اليوم الواحد مائة مرة وهذا غين أنوار لا غين أغيار ولا حجاب ولا غفلة. وأراد بالمائة التكثير فلا ينافي رواية سبعين". أ.هـ.
وأوضح سيدنا المؤلف قدس سره أن حجاب الغين يغشي قلوب الناس جميعا فتنحجب عن لذائذ الحضور برؤية الأنفس فالمحمدي أي المؤمن الذي تخلق بخُلق النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى به بالأقوال والأفعال يستغفر الله ويدفع الحجاب بذكر الله فتنجلي حضيرة قلبه برجوعه من غي نفسه إلى ربه وهذا الخُلق من سر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }الأعراف201. وملخص ما ذكره الإمام الرازي في تفسير الآية: "إن الطائف قراءة الكسائي (طيف) بغير ألف وابن كثير وأبو عمرو كذلك والباقون (طائف) بالألف واختلفوا في معناه وفيه فمنهم من قال إنه مصدر ومنهم من قال غير ذلك وقال بعضهم في معناه إنه الغضب والوسوسة وقالوا إنه الخاطر وقالوا إنه ما يطوف حول القلب من الخيال وغير ذلك. فالمتقون إذا مسهم هذا الطائف من الشيطان حالة غضب على عجزه لا يقدرون على الدفع عن أنفسهم ذكروا الله سبحانه وتعالى وتحققوا أن كل واحد منهم عاجز بالنسبة إلى قدرة الله وتذكروا أيضا ما أمرهم به من ترك أمضاء الغضب والرجوع إلى ترك الإيذاء والإيحاش فتنقلب قلوبهم عند حضور هذه التذكرات في عقولهم إلى إسداء الخير للمغضوب عليهم والعفو في الحال يزول طائف الشيطان ويحصل الاستبصار والانكشاف والتجلي والخلاص من وسوسة الشيطان".
هذا ملخص ما ذكره الفخر رحمه الله والذي عليه مشايخنا السادة الرفاعية. فإن الذين اتقوا أي الذين خافوا الله إذا مسهم خاطر من الشيطان فزيّن لهم عملا قبيحا غير مرضي عهد الله وانحجب القلب حالة تغطيته بالخاطر المذكور ذكروا الله فزانوا الخاطر بميزان الشرع وحاسبوا أنفسهم وتذكروا عذاب الله وغضبه فدفعوا بهذا حجاب الغين عن القلب فإذا هم مفاجأة في الحال مبصرون بأعين بصائر الطريق الحق والباطل فيدفعون الشيطان وما أتي به من البطلان ويشدون مآزر الحزم وحزم العزم إلى طاعة الله ومرضاته ويستغفرون الله ندما عما ألمّ بهم من الخواطر الشيطانية معرضين عن الأغيار بالكلية. هذا شأن من كان محمدي القدم وأما من كان محجوبا عن التقوى وخوف الله إذا مسه طائف من الشيطان ازداد طمساً على طمس وحجابا على حجاب والعصمة والوقاية من الله سبحانه وتعالى.
77- ثم قال سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه: "لا دواء للحمق ولا دافع للحق ولا صحبة للمغرور ولا عهد للغادر ولا نور للغافل ولا إيمان لمن لا عهد له".
78- "كتب الله على كل نفس زكية أن تعذَّب في الدنيا بأيدي الأشرار وألسنة الفجار، وكتب على كل نفس خبيثة أن تسيء للمحسن وأن تمكر بالمُجمل والعون الإلهي محيط بالعبد المخلص المنكسر. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار}آل عمران192".
79- "علامة العدو أن يرغب بما في يديك وأن يرغب عنك إذا قل مالك. وأن يستل سيف لسانه بمغيبتك. وأن يكره أن تُمدح فدعه لله فهو عَثورٌ على رأسه كالنار تأكل حطبها {وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرا}النساء45. وعلامة الصدّيق أن يحبك لله فالصق به فإن أهل المحبة لله قليل".
أراد بقوله لا دواء للحمق قطع الأمل عن معالجة الأحمق لأن الحمق داء غريز في الطبع لا ينسلخ إلا بانسلاخ الروح عن البدن ولذلك ورد أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: "ما أعجزني إحياء الموتى ولكن أعجزني معالجة الأحمق". ومما ينسب للإمام علي كرم الله وجهه قوله:
لكل داءٍ دواءٌ يُستطّب به | | إلا الحماقة أعيت مَن يداويها |
ولهذا نهى الشرع عن مصاحبة الأحمق وجاء في الأثر: "الصحبة مع العاقل زيادة في الدين والدنيا والآخرة والصحبة مع الأحمق نقصان في الدين والدنيا وحسرة وندامة عند الموت وخسارة في الآخرة".
وقول المؤلف "ولا دافع للحق" مؤيد بقوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}يونس82. الآية. ومن أحسن الحِكم في هذا المعنى قول علي أمير المؤمنين رضي الله عنه وكرم الله وجهه: "للحق نورٌ يبرز ضعيفاً مضمحلا ثم ينمو ويعظم، وللباطل صولة تبرز قوية ثم تضمحل وتضعف حتى لا يبقى لها أثر". ويناسب هذا المعنى قول الفاضل عبد الباقي العمري الموصلي رحمه الله في الإمام علي أمير المؤمنين رضي الله عنه:
إذا الحق انتمى لِحِمى عليٍّ | | فلا تعجب فإن الحق يعلو |
وانظر كيف يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "الحق أصلٌ في الجنة والباطل أصل في النار".
وقول سيدنا المؤلف "ولا صحبة للمغرور" حكمة جليلة لأن المغرور برأيه المعجب بنفسه لا يعرف قدر صاحبه ولا يتبع رأيه ويرى أنه على كل شيء، حال كونه ليس بشيء، فإذن لا يتمكن العاقل من صحبته.
وقوله "ولا عهد للغادر" مبرهن بالطبع فإن مَن كان طبعه الغدر لا يقف عند عهد ولا يتقيد بحد. وقوله "ولا نور للغافل" ثابت بالبداهة لأن الغفلة ظلمة والانتباه نور وهما ضدان والضدان لا يجتمعان ومن الغفلة عند الله تنتج المعاصي. والمعاصي تنتج سوء الفهم حتى يضل صاحبها سواء السبيل. وقد أنشد الإمام الشافعي رضي الله عنه هضماً لنفسه وتعليما لغيره:
شكوت إلى وكيعٍ سوء فهمي | | فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وأخبرني بأن العلم نورٌ | | ونور الله لا يُهدى لعاصِ |
وقد أوجز سيدنا المؤلف الحكمة فذكر ما جاء في السُنة بقوله "ولا إيمان لمن لا عهد له" وبيان ذلك أن الرجل لا يجترئ على نقض العهد والميثاق بعد أن جعل الله عليه وكيلا إلا لأحد أمرين إما أنه لا يعتقد اللقاء ولا يخشى الحساب وإما أن يستخف بعهد الله وكلاهما والعياذ بالله نقص في الدين والإيمان ونزغ ودسيسة من عمل الشيطان.
وقوله "كتب الله" أي قضى وقدّر على كل نفس زكية صالحة مطهرة من العيوب المذمومة شرعا أن تُعذب وتُهان بنسبة حالها سواء كانت كبيرة أو صغيرة في الدنيا لا في الآخرة بأيدي الأشرار أي بما اكتسبته أيديهم من المساعي القبيحة وأن تُساء بألسنة الفجّار فتُذم بلا موجب وتُستغاب بلا سبب وتُذكر بالسوء وهي مبرأة وذلك لهوان هذه الدنيا عند الله ولكونه أراد سبحانه وتعالى أن يرفع لتلك النفس الزكية الرضية لواء عزٍّ في الآخرة الباقية. وكتب سبحانه وتعالى وقضى وقدّر على كل نفس خبيثة منحرفة عن طريق الحق أن تسيء لمن أحسن إليها وأن تمكر بمن عاملها بالجميل ولكن العون والحفظ الإلهي محيط بالعبد المخلص لله المنكسر لسلطان ربوبيته شامل في حركاته وسكناته له وما للظالمين الذين يضعون الباطل محل الحق من أنصار وأعوان يحفظونهم من سيوف بطش الله وسهام غيرة الله على أن الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه. وقال "علامة العدو التي تدلك عليه كونه عدواً أن يرغب بما في يدك من العَرَض والحطام وأن يرغب عنك ويهجرك إذا قلّ مالك وضعف حالك وأن يستلَّ سيف لسانه بمغيبتك فيجرح جسم عرضك". وصريح ما قاله القائل:
جراحات السنان لها التئامٌ | | ولا يلتام ما جَرَحَ اللسانُ |
ومن علامته أيضا أن يكره أن تُمدح وتُذكر بخير ويُسر أن تُذم وتُذكر بسوء فدعه لله ولا تقابله فإن من انتصر لنفسه تعب ومن سلّم الأمر لمولاه تولى نصره وكفاه واصبر عليه معتزا بالله منتظرا غارة الله وأبشر فهو عثورٌ يقع على رأسه ويحفر لحتفه بظلفه ومَثله كالنار تضرم لهبها وتأكل حطبها {وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرا}النساء45.
لمن أعرض عن الأغيار وانتصر بالملك الجبار.
ثم قال وعلامة الصدّيق أن يحبك لله لا لعَرَض ولا لغرض فالصق به ولازمه ولا تنفك عنه فإن أهل المحبة لله قليل بل أقل من القليل.
وقد عرّف سيدنا الإمام علي أمير المؤمنين رضي الله عنه وكرم وجهه شأن الصدّيق الذي تسكن الروح إليه ويستريح القلب معه بقوله:
صديقك الذي بأمرَيكَ معك ومَن إذا ريبُ الزمان صدّعك | | ومَن يضر نفسه لينفعك شتت شمل نفسه ليجمعك |
80- ثم قال سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه: "أول كلام بعض الفقراء وكأنك تدرأ الحدود بالشبهات، لو كنتُ في زمن الحلاج لأفتيت مع من أفتى بقتله إذا صح الخبر. ولأخذت بالتأويل الذي يدرأ عنه الحد ولقنعت منه بالتوبة والرجوع إلى الله فإن باب الرحمن لا يُغلق".
81- "وهب الله عبادا من عباده رتبا رفيعة أطلع عليها أهل الوهب. فمن أدرك سر الله في طي هذه المواهب تواضع للخلق جميعا. فإن الخواتيم مجهولة وساحة الكرم وسيعة ولا قيد في حضرة الوهب {يَفْعَلُ مَا يَشَاء}آل عمران40. و{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء}البقرة105."
أشار بقوله "أول كلام بعض الفقراء وكأنك تدرأ الحدود بالشبهات" إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" و"أقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله". فعلى هذا نؤول ما أمكن التأويل.
وقوله "لو كنت في زمن الحلاج لأفتيت مع من أفتى بقتله إذا صح الخبر فيه" شأن عظيم من الغيرة والانتصار لله ورسوله وللشريعة المطهرة.
نبذة مختصرة من سيرة الحلاج رحمه الله
ولنذكر هنا نبذة مختصرة من سيرة الحلاج ليظهر سر مقصود سيدنا المؤلف قدس سره فنقول: "الحلاج هو أبو مغيث الحسين بن منصور من أهل البيضاء وهي بلد بفارس نشأ بواسط العراق وصحب الإمام الجنيد البغدادي وغيره. وقد اختُلف في أمره وكثر به القال والقيل في عصره وذهب الشيوخ بعده في شأنه إلى مذاهب كثيرة فمنهم من كفّره ومنهم من عظمه ومنهم اعتذر له وعذره وشاع عنه وذاع وملأ الدفاتر والأسماع أنها كانت تصدر عنه ألفاظ يردّها ظاهر الشرع وينبو عنها السمع مثل قوله "أنا الحق" وقوله "ما في الجبة إلا الله". وقد اعتذر له عن هذه الألفاظ ومثلها الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (مشكاة الأنوار) وذكره القشيري في (رسالته) بين المشايخ الأخيار إلا أنه صرح بخطيئاته ولمح بشبهاته. وقد أفتى الإمام الجنيد البغدادي قدس سره ورضي الله عنه بقتله مع من أفتى. وعدّه جماعة من القوم بين الأولياء حتى أن الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه ذكر أنه عارف وقال لو كنت في زمنه لأخذت بيده. وسيدنا المؤلف رضي الله عنه من الذين يقولون بولايته ويعتقدون خطأه وقد صرح في كتابه (البرهان) بذلك ما نصه: "ينقلون عن الحلاج أنه قال "أنا الحق"! أخطأ بوهمِه، لو كان على الحق ما قال "أنا الحق ."يذكرون له شِعراً يوهم الوَحْدة . كل ذلك ومثله باطل. ما أراهُ رجلاً واصلاً أبدا". إلى آخر ما قال. ومن المعلوم أن علماء بغداد أجمعوا على قتله وصلبه وكتب القاضي بإباحة دمه ورُفعت الفتاوى إلى الخليفة فأذن في قتله فقُتل وأُحرق بالنار وألقي رماده في الدجلة ونُصب الرأس ببغداد وأُرسل إلى خراسان ليراه أصحابه الذين افتتنوا به. هذا ملخص ما قيل في شأنه في سائر التواريخ وكان قتله في سنة تسع وثلاثمائة وقد ظهرت على يديه الكرامات العديدة فالذي اعتقده قال بكرامته ومن لم يعتقده قال إن الذي ظهر منه سحر وشعبذة. فالملخص ما ذكر اشترط سيدنا المؤلف على الفتوى بقتله صحة الخبر. ثم قال "ولأخذت بالتأويل" هذا بعد تحقق كل شيء مما نقل عنه تأويلا تدرأ عنه الحد ويقبله الشرع وإذا أمكن التأويل اقنع منه بالتوبة عن الكلام الذي يكلف سامعه التأويل على أنه ذنب عظيم يجب فيه الرجوع إلى الله. وبعد التوبة فباب الرحمن لا يُغلق عن عبيده الذين أسرفوا على أنفسهم وباءوا بذنوبهم إلى الله تعالى قال تعالى: " {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا}الزمر53. الآية. ثم انعطف سيدنا المؤلف على مقاصده المضمرة فأوضحها بقوله "وهب الله عبادا من عباده" أي المسلمين والمؤمنين العارفين رتباً رفيعة عالية أطلع عليها أهل الوهب والفتح فمن أدرك سر الله المطوي طي هذه المواهب المنشورة على النوع الإنساني تواضع للخَلق جميعا وأحسن سريرته مع الله فإن الخواتيم ونهايات الخَلق مجهولة لدى الخَلق وساحة الكرم وسيعة عظيمة الفيوضات ولا قيد على الوهاب في حضرة الوهب يفعل ما يشاء متى يشاء و {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء}البقرة105. فعلى هذا الأدب مع خلق الله وفق شريعة رسول الله أنجح الطرق وأحسن المذاهب والتجرد من غرض النفس ومرض الطبع ترياق كل سالك إلى الله ورفيق كل ذاهب.
82-ثم قال سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه: "قال بعض الأعاجم من صوفية خراسان: إن روحانية ابن شهريار الصوفي الكبير قدس سره تتصرف في ترتيب جموع الصوفية في العرب والعجم إلى ما شاء الله. ذلك لم يكن إلا لله الوهاب الفعال".
83- "النيابة المحمدية عند أهل القلوب ثابتة تدور بنوبة أهل الوقت على مراتبهم وتصرّف الروح لا يصح لمخلوق. إنما الكرم الإلهي يشمل أرواح بعض أوليائه بل كلهم. فيصلح شأن من يتوسل بهم إلى الله. قال تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}فصلت31. هذا الحد".
84- "إياك وإفراط الأعاجم. فإن في أعمال بعضهم الإطراء الذي نص عليه الحبيب عليه صلوات الله وسلامه".
85- "وإياك ورؤيا الفعل في العبد حيا كان أو ميتا فإن الخلق كلهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا".
86- "نعم خذ محبة أحباب الله وسيلة إلى الله. فإن محبة الله تعالى لعباده سر من أسرار الألوهية. يعود صفة للحق ونعم الوسيلة إلى الله سر ألوهيته، وصفة ربوبيته".
87- "الولي مَن تمسك كل التمسك بأذيال النبي صلى الله عليه وسلم ورضي بالله وليا".
ترجمة ابن شهريار
ابن شهريار الذي أشار إليه المؤلف رضي الله عنه ترجمه الإمام شيخ الإسلام أحمد بن جلال المصري في كتابه (جِلاء الصدا) وقال في شأنه هو الشيخ الولي الإمام الشهير الواصلة ميامن بركاته إلى الصغير والكبير سلطان أجلّة العارفين وبرهان أدلة الوراثين غوث من استغاث به من الأمة والكاشف عنهم الكرب والغمة الذي اختاره الله من بين الأخيار الشيخ المرشد أبو إسحاق إبراهيم بن شهريار الكازروني قدس سره العزيز. ثم قال "وقد أخبر بظهور سيدي أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه وأظهر على قدره وما لَهُ من القرب عند الواحد الصمد مع أن وفاة الشيخ أبي إسحاق قبل مولد السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنهما بإحدى وثمانين سنة". انتهى ملخصاً.
قلت وكانت وفاة الشيخ المشار إليه صب الله سجال رحمته عليه سنة تسع وعشرين وأربعمائة وقد أثنى عليه الشيوخ وعظّمه الرجال وترجمه أصحاب الكمال بما يدل على مناقبه الشهيرة ومحامده الكثيرة وقال قوم من الصوفية بتصرفه في حياته وبعد مماته ونقل مثل ذلك عن الشيخ حيوة بن قيس الحراني أحد أصحاب سيدنا المؤلف رضي الله عنهما وذكروا ذلك أيضا عن الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ معروف الكرخي وغير واحد وذكر ذلك البعض من أعيان الرفاعية عن سيدنا المؤلف رضي الله عنه أيضا.
عدم رؤيا الفعل في العبد حيا أو ميتا
والحال أنه قدس سره وعمّنا بره لا يقول بهذا على الوجه المعروف عند الطائفة القائلة بتصرف بعض الأموات في قبورهم بل ينكر ذلك البتة ويصرح بعدم تصرف الروح لمخلوق وإنما الكرم الإلهي يشمل أرواح الأولياء فيُصلح شأن مناديهم ومن ينزل بناديهم. وقد نبّه على عدم رؤيا الفعل في العبد حيا كان أو ميتا وصرّح بأن الخلق حيّهم وميتهم كبيرهم وصغيرهم على حال واحد في العجز لا يملك أحد لنفسه ضرا ولا نفعا وقد أوضحت ذلك الأحاديث والدلالات والآيات البينات القرآنيات إلا أن الأولياء لما كانوا أحباب الله ومحبة الله تعالى لهم صفة من صفات ربوبيته اتخذ العباد محبة الله لهم وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى. وأراد سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه أن يعرفنا الولي لنحبه ونتوسل إلى الله بمحبة الله له فقال الولي مَن تمسك كل التمسك بأذيال النبي صلى الله عليه وسلم ورضي بالله وليا. وقد ذكر صاحب (معراج السالكين) أنه سأل شيخه السيد حسين برهان الدين الصيادي الرفاعي قدس سره سؤالا يناسب هذا المعنى وها هو بنصه: "وسألته رضي الله عنه عن كشف الولي حالة كونه في بغداد وناد به في فاس كيف يطلع عليه ويراه وقد يتفق في الوقت الواحد أن يُندب من الأماكن المتعددة على الألسن المتعددة ويرى كل نادبٍ له ويطّلع على أحوال الكل وقد يقوم بمدد الله بمعونة الكل وهو في مكانه الذي هو فيه فما هذا الحال؟ فقال: مَثَلُ قلب الولي كالحجر المغناطيسي العظيم الجسيم إذا وضعته في صحن دار وسيعة مربعة مفروشة بالرخام الأبيض بسيطة وجعلته النقطة الوسطى من الصحن وطرقته الشمس الحارة صحن الدار من كل جانب ووجهت من كل جهة قطع الحديد وما يصح جذبه إليه، أهَلّ تسري جاذبيته إلى الجميع وتصلهم وهو في محله؟ قلت: بلى. قال: وقلب الولي كذلك أعطاه الله سرا انجلى فيه حالة توجه القلب الآخر إليه تنعكس مادته اليه وتُصلح شأنه وشأن القلب الآخر والآخر وصلة شعاعية لا يمنعها حجاب من الحجب الثقيلة لأن الصحن: الحضرة الوسيعة، والرخام: طهارة النية، وحُسن تربيع المحل: صحة الطرز، وطرقة الشمس الحارة من كل جهاته: إعطاء نور المادة الممدة من جانب شمس العناية المقدسة لكيلا تنقطع قوة الكيفيتين حالة المد والاستمداد. وإلا فلا تصح هذه الإحاطة لمخلوق لأن الإحاطة بلا طلب ولا لفت قلب يوجب انعكاس مادة جاذبة إنما هو شأن الله الذي يحفظك ويعينك ويصونك بحفظه وعونه وصونه وأنت على غفلة ويرزقك وأنت على معصية ويُحسن إليك وأنت على إساءة وأنّى للعبد المسكين هذه الشؤون تعالى الله علوا كبيرا. قلت: حينئذ ثبت ما قاله بعض الحنابلة بعدم مدد الولي بعد موته. قال لا بل لم يثبت لأن المادة المُمِدّة في الولي ليست القطعة اللحمية المعطلة وإنما هي كلمة المدد الرباني المُدلاة إليه وهذه كلمة ليست بمعطلة لا ينقطع مددها ولا ينقضي أمدها ولا تبديل لكلمات الله. قلت: ولعل المدد وهبٌ بقيد كون الولي حيا؟ قال: هذا ظنٌ على وجه باطل إذ لعل المدد وهبٌ بلا قيد وهذا اللائق بالإلهية ولا ينقص من خزانة الكرم شيء. وإذا كانت المادة المُمِدّة الفعالة مادة المدد المدلاة إلى قالب الولي وقلبه المجتمع من ماء وطين لا يضر ولا ينفع ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً وهي المتصرفة الضارة النافعة الممدة وجعل الله عبده الولي موضع مدده ووجهة البعيد عن مدده المحجوب عنه إليه فمتى توجه العبد إلى الوجهة التي جعلها الله موضع مدده وقَبِل الحق اتجاهه انصرفت إليه مادة المدد من موضعها سواء كان موجوداً أو مفقودا حياً أو ميتا قريباً أو بعيداً ولا فرق في هذا وهو الأصل عند العارفين. قلت: حينئذ فما مزيّة الولي حالة كونه مجرداً عن الفعل والفتق والرتق والحول والقوة والوهب والسلب؟ فقال: مزيته الاختصاص {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}آل عمران74. أ.هـ. وفيما قاله هذا الإمام كفاية والله ولي التوفيق والعناية.
88- ثم قال سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه: "مَن اعتصم بالله جل. ومن اعتمد على غير الله ذل. ومن استغنى بالأغيار قلّ. ومن اتبع غير طريق الرسول ضل". 89- "العلم نورٌ والتواضعُ سرور".
90- "الهِمّة حالة الرجل مع الله. يتفاوت علو مرتبة الإيمان بعلو الهمة".
91- "مَن أيقنَ أن الله الفعّال المطلق صرف همته من غيره".
92- "مَن علت في الله همته صحت إلى الله عزيمته وانفصلت عن غير الله هجرته".
93- "مائدة الكرم يجلس عليها البَرُّ والفاجر".
94- "لله عند الخواتيم حنانٌ ولطفٌ على عباده فوق حنان الوالدة على ولدها".
95- "إن الله إذا وهب عبده نعمة ما استردها".
96- "فيوضات المواهب الإلهية فوق مدارك العقول وتصورات الأوهام".
97- "مَن علم أن الله يفعل ما يريد، فوَّض الأمر إلى الفعال المقتدر، وفرش جبينه على تراب التسليم".
98- "كل الحقائق إذا انجلت يُقرأ في صحائفها سطر {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه}القصص88".
99- "إذا أمعنت النظر في دوائر الأكوان رأيت العجز محيطا بها والافتقار قائما معها ولربك الحول والقوة، والغنى والقدرة، وحده لا شريك له".
100- "مزالق الأقدام: الدعوى ورؤيا النفس ومعارضة الأقدار".
101- "لو كان لك ما ادَّعيت من الحول والقوة والقدرة، لما مِتَّ".
102- "أين أنت يا عبد الرئاسة؟ أين أنت يا عبد الدعوى؟ أنت على غِرّة. تنح عن رئاستك وغـِرتك والبس ثوب عبديتك وذلتك".
103- "كل دعواك كاذبة، وكل رئاستك وغرتك هزل. القول الفصل: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّه}النساء78".
أوضح رضي الله تعالى عنه في جُمَل حكمه هذه أن من اعتصم بالله ملتجئاً إليه منحرفاً عن غيره صار جليلاً عند الله والناس. ومَن اعتمد على غير الله منقطعاً عن طريق الاعتصام بالله صار ذليلاً عند الله والناس، ومن استغنى بالأغيار مترفعاً عن رتبة الافتقار إلى الله ابتُلى بالقلة، ومَن اتبع برأيه غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو السُنة السَنية والشريعة الأحمدية فقد تاه عن طريق الصواب وصار من أهل الضلالة وهذا لا يكون إلا من الجهل. ولذلك قال السيد المؤلف رضي الله عنه "العلم نور يهتدي به العبد إلى سبيل الرشاد والتواضع غايته سرور" لكونه من الأسباب الموصلة إلى العلم وقد ورد بما معناه "أن العلم يُذبح أو يضيع بين الكِبر والحياء فإن المتكبر تعظم عليه نفسه أن يسأل لكيلا يُجَهَّل والمُستحي يمنعه خجله عن السؤال فلا يصل إلى مقصده من العلم. وقال "الهِمّة" وهي الجزم الصحيح والنية الخالصة حالة الرجل مع الله وبها يحصل التفاوت في علو مرتبة الإيمان فمن أيقن وتحقق أن الله تعالى هو الفعال المطلق وغيره لا فعل له صرف همته وحوّل جزمه ونيته عن النظر إلى غيره فإن مَن علت في الله همته وانحرفت عن الأغيار بالكلية نيته، صحت إلى الله عزيمته وثبتت مع المقربين منزلته وانفصلت عن غير الله هجرته فإن "مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله ..." كما ورد في الحديث الصادق. ولا ريب فإن مائدة الكرم ووليمة الإحسان يُدعى إليها ويجلس عليها البَرُّ والفاجر والأصاغر والأكابر ولله سبحانه وتعالى عند الخواتيم ونهايات الآجال حنانٌ وعطفٌ وكرمٌ ولطفٌ على عباده فوق حنان الوالدة الشفيقة على ولدها الصالح. وإن الله إذا وهب عبده نعمة وأتحفه من إحسانه خصيصة ما استردها لأن فيوضات المواهب الإلهية فوق مدارك العقول السليمة وتصورات الأوهام ومدارج الخواطر. فعلى هذا مَن علم أن الله يفعل ما يريد ولا رادّ لأمره ولا منازع لحكمه فوّض الأمر إلى الفعّال المقتدر المُتصرف في ملكه كيف شاء، وفرش جبينه إذعاناً وانقياداً على تراب التسليم الحَكَم الحكيم لأن كل الحقائق القائمة مع الخلائق إذا انجلت وانكشف غطاؤها يُقرأ في صحائفها ويُشهد في كل لوح من ألواحها رسم الأمر الإلهي المنجلي فيه سطر {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه}القصص88. فبعد ذلك وقبل أن تصل إلى كشف هذه المسالك إذا أمعنت النظر معتبرا في دوائر الأكوان وعوالم الذرات والإنسان رأيت العجز محيطاً بها من كل جانب والافتقار قائما معها في جميع التقلبات والمذاهب، ولربك الحَول والطول والقوة والبقاء والغنى والقدرة وحده لا شريك له. واعلم أن مزالق الأقدام: الدعوى العريضة ورؤيا النفس وأعمالها ومعارضة الأقدار بالاعتراض عليها. لو كان لك ما ادّعيت أيها المُدَّعي وثبت لك ما نسبته لنفسك من الحول والقوة والقدرة، لما تحوّل حالك من الصغر إلى الكبر ومنه إلى الهرم ولما مِتَّ وتحولت من الوجود إلى العدم. أين أنت يا عبد الرئاسة المستغرق الأوقات بلذاتها الفانية؟ أين أنت يا عبد الدعوى المشغول بأوهامها الواهية؟ أنت على غرة، تنَح وتباعد عن رئاستك الفانية وغرتك الواهية والبس ثوب عبديتك لربك وتردى برداء ذلتك له بلسانك وقلبك فإن كل دعواك الوصل والقطع والفتق والرتق كاذبة وكل رئاستك بوهمك وغرتك بوقتك وجسمك هزل. القول الفصل المستجمع لكل فضل {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّه}النساء78. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا يخفى أن ما أورده سيدنا المؤلف رضي الله تعالى عنه في هذه الجمل المباركة من الحكم الفائقة والمعاني الرائقة مؤيد بكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، غنيٌ فيه المقام عن الإيضاح وقد أوردتُ ما يناسب بعض مقاصده الكريمة في قصيدة لي تخلصت فيها بمدح النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
هوِّن عليك أخَيَّ فالأيامُ واصبر لغُصَّتها فآيتها وإن كادت تشابه إبرةَ الفَلَك التي تجري لغاية مستقرٍّ شمسُها قد كُوِّرت لفّاً ودارت أرضُها ما أعجبَ المهد الذي خفّت على هو كالسريرِ تهزُّهُ من نفسِهِ خذ منه فيما صارعتكَ يدُ النوى قد يحسب الناسُ الجبالَ جوامداً فاصبر لعمرك فالزمانُ حوادثٌ | | مهما استطالَ مَطالُها أحلامُ ضاقت مدارٌ ما لديه دوامُ ثبتت ودارت حولها الأجرامُ فيحفها عند العمودِ ظلامُ والناس بالشبر البسيط نيامُ مقدارِها في دورها الأعلامُ كرويّةَ البرهانِ وهو مُقامُ معنى فعلَّ تذيعُهُ الأقلامُ ومرورها للنصِّ فيه نظامُ تمضي ورأسُ المال فيه كلامُ |
خبرٌ بطيب وعكسَهُ فاصلح به واجعل لشمس الروح قطبا ثابتا واقرأ إذا أرَّختَ نفسَكَ ذكرَها فلأنت عالمُ كل شيءٍ ثابتٌ من كل زوجين المثالُ ونوعها كم آدمٍ من قبل آدمك انطوى منها خلقناكم تتمة آيها فاسهر إذا نام الخَليُّ لحكمةٍ وافتح من القرآن كنزَ معارفٍ وخذ الرسولَ وسيلة فمن التجا | | شأناً إذا ذكر الشؤونَ كرامُ يرضى بما يقضي به العلاّمُ فرَحا بما نسجَت لك الأرقامُ شكلا وشكلك هيكلٌ لَمّامُ بك صيغةٌ حارت بها الأفهامُ نصّاً وأنت تغرُّكَ الأوهامُ يُخبرك كيف تسلسلُ الأجسامُ يُعلي شرافة مجدِها الأحكامُ فالدينُ عند الخالقِ الإسلامُ لرحابِهِ المعمورِ ليس يُضامُ |