الحجة القوية في حقيقة قول الشافعي في السادة الصوفية
(روى البيهقي في مناقب الشافعي (2 ـ208) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد جعفر بن محمد بن الحارث يقول: سمعت أبا عبد الله: الحسين بن محمد بن بحر يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول: لو أن رجلاً تصوَّف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق.)
هذه المسائل أذكر أني تكلمت فيها لكن لا أهتدي إلى موضع ذلك الآن.
وهذه الرواية في مناقب البيهقي 2/207 من طبعة مكتبة التراث التي بتحقيق السيد أحمد صقر، وقد رواها البيهقي عن شيخيه الحافظين أبي عبد الرحمن السلمي وأبي عبد الله الحاكم، والبيهقي وشيخاه أئمة، ويونس بن عبد الأعلى وشيخه الشافعي إمامان، وبقي الكلام على اثنين:
الأول: جعفر بن محمد بن الحارث هو المراغي أبو محمد نزيل نيسابور المتوفى سنة 356هـ عن نيف وثمانين سنة، شيخ الحاكم، أثنى عليه الحاكم واصفا إياه بأنه أصدق الناس وأوثقهم في الحديث، وصحح له في المستدرك، وأفضل ترجمة له تجدها عند السمعاني في الأنساب، وهو اعتمد على تاريخ نيسابور للحاكم.
والثاني: هو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الضحاك المعروف بابن بحر، الفارسي ثم المصري، روى عنه جماعة منهم الحافظ ابن عدي وأبو الحسن النيسابوري.. وذكره ابن مندة في الكنى فقال: (أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الضحاك الفارسي نزل مصر حدث عن أبي مصعب قاله لي أبو سعيد بن يونس) اهـ.
والإسناد بهذا التركيب أعني رواية المراغي ذاك عن ابن بحر هذا ليس بغريب بل تراه عند البيهقي في كتبه وابن عساكر في تاريخه ومسند الشهاب.. فلا غرابة في هذا التركيب ولا جهالة، لكن يقع في بعض المواطن الحسن بدلا من الحسين، والأشهر الحسين.
ولم أر من وثقه إلا الدارقطني في سؤلات حمزة بن يوسف السهمي له ففيها:
((وسألته عن أبي عبد الله الحسين بن محمد بن الضحاك يعرف بابن أخي بحر بمصر فقال ثقة)) اهـ.
فإن كان لم يوثقه إلا الدارقطني، وكان المراغي لم يوثقه إلا الحاكم فههنا مسألة وهي هل يكفي في التعديل واحد؟ :
عند جمهور المحدثين يكفي.
ـ لكن قيل لا يكفي بل لا بد من ثلاثة يعدلونه وهذا اختيار الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام.
ـ وقيل لا بد من اثنين مثل الشهادة، وهذا حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم، وهو المرجح عند المالكية والشافعية وبه قال محمد بن الحسن وأبو جعفر الطحاوي.
فعلى هذا فلا يلزمنا اعتقاد صحة هذا الخبر، لا سيما من قال بقول أهل المدينة كأصحابنا المالكية.
وأمر آخر نضيفه هنا فنقول:
هذا الدارقطني الذي وثق ابن بحر أتدرون على أي شيء وثقه؟ أعنده علم من شيوخه أنه ثقه فوثقه، أم أنه وثقه على طريقة ابن حبان في توثيق مجهولي الحال؟؟؟؟
فإن السخاوي نقل في فتح المغيث ما نصه: ((وعبارة الدارقطني: من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته وثبتت عدالته وقال أيضا في الديات نحوه وكذا اكتفى بمجرد روايتهما ابن حبان)) اهـ.
والمعلوم لدينا عن أصحاب الألباني جميعا في هذا الوقت وكذا المعتنين بالحديث من الوهابية أنهم لا يعتدون بهذه الطريقة في التوثيق وفاقا لجمهرة أهل الحديث، فإن كان كذلك وجب أن يكون توثيق الدارقطني عندهم بمنزلة توثيق ابن حبان غير معتد به، فمن أين تأتي الصحة عندهم لسند فيه راو لم يوثقه إلا الدارقطني؟
طريق آخر لهذا الخبر يقلب معناه:
ومما يعكر على هذا الخبر أن الحافظ أبا نعيم الأصفهاني أخرجه في "حلية الأولياء" بلفظ آخر قال:
((حدثنا محمد بن عبدالرحمن حدثني أبو الحسن بن القتات ثنا محمد بن أبي يحيى ثنا يونس بن عبدالأعلى قال سمعت الشافعي يقول لولا أن رجلا عاقلا تصوف لم يأت الظهر حتى يصير أحمق)) اهـ.
هكذا هو لفظ الخبر في الحلية المطبوعة، والله أعلم، وهذا لفظ آخر كما ترى يحمل نقيض الأول، فهو يقيد الحماقة بتصوف غير العاقل، فكأنه لا يرى تصوف العاقل يورث حماقة، فإن كان هذا اللفظ محفوظا فهو مفسر للأول مقيد له بأن التصوف يجر إلى الحماقة إذا كان من ضعيف العقل ولا يضر إذا كان من عاقل، وإليك نظرة على سند هذا الطريق:
أما محمد بن عبد الرحمن فهو شيخ أبي نعيم ترجم له أبو نعيم في تاريخ أصبهان قال:
((محمد بن عبد الرحمن بن الفضل بن الحسين بن الفضل بن زيد بن ماهان بن بيان بن كوفي أبو بكر الجوهري التميمي الخطيب، سمع أبا خليفة وعبدان وابن زهير ومحموداً والعراقيين والحجازيين صاحب التفاسير والقراآت توفي بعد الستين)) اهـ.
وقد ذكره ابن الجزري في طبقات القراء وقال: (شيخ معروف مقرئ) اهـ وذكره الداودي في طبقات المفسرين، ولم أقف على جرح أو تعديل فيه غير هذا.
وشيخه (أبو الحسن القتات) لم أجده، أميل إلى أنه تصحف عن أبي الحسن القباب المصري، وهذا ذكره ابن ماكولا في الإكمال ووثقه، وقال الدارقطني في المؤتلف والمختلف:
((وأما قباب فهو أحمد بن محمد بن الحارث بن عبد الوارث بن كامل بن مليح أبو الحسن بن القباب حدث بمصر توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة)) اهـ.
وأما شيخه (محمد بن أبي يحيى) فلم أعرفه، والذي أميل إليه أنه تحريف صوابه (الحسين بن أخي بحر) وهو بعينه الحسين بن محمد بن الضحاك المتقدم، فعلى هذا يتكرر الكلام الذي قلناه سابقا، وهذه أسانيد لا تنهض حجة فإن صحت فقد عرفناك ما يشكل عليها وعرفناك معناها، فالله أعلم.
سلمنا أن الخبر صحيح سندا لكن عند التحقيق والبسط لا حجة فيه على طعن الشافعي في محققي الصوفية وهذا مبحث إن أحب الإخوة استرسلت فيه وإلا فقد أجبت عما سألوا عنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
أن هذه الرواية والكلام عليها يجب أن يندرج في مبحث كامل تحت مسمى: "الحجة القوية في حقيقة قول الشافعي في السادة الصوفية" لأن هذه الرواية وحدها ليست كافية في بيان حقيقة موقف الإمام.
وبيان موقف الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة من الصوفية لا يكون بهذه الطريقة التي يسلكها المخالفون عادة ابتغاء التشنيع، على أن من نختلف معه في العقائد ممن يعتقدون التجسيم والحلول والجهة والشاب الأمرد ذي الفخذ المتكئ ليس من المنطق في شيء أن نتحاور معهم حول الفروع فضلا عن مقام الإحسان والصوفية والتصوف، وكيف أتحاور مع شخص يتهم الصوفية بصحبة المردان وهو نفسه يعتقد أن ربه في صورة شاب أمرد!! وكيف نتحاور في موقف الأئمة من التصوف مع قوم يجاهر غلمانهم بتجهيل الأئمة والاستخفاف بهم والطعن عليهم؟! وفي قرن الفتنة يوزع الحشوية كتاب نشر الصحيفة جمعوا فيه مثالب أبي حنيفة متشبهين بالرافضة الجماعين لمثالب الصحابة والتابعين، فبالله عليك كيف يبحث مع هؤلاء أصلا وفرعا عن موقف أبي حنيفة من الصوفية وهم لا يقيمون وزنا لأبي حنيفة؟ فبالقطع ليس هذا من المنطق في شيء.
لكن إذا أشكل هذا الأمر على شافعي أشعري بأن وجد هذا النص عن الشافعي في حين أنه اعتاد محبة الصوفية وتلقاها من شيوخه فأحب أن يعرف الجواب الصحيح فههنا نقول له حبا وكرامة ونعطيه الجواب على سبيل الاقتضاب وإلا فالمسألة حقيقة بمجلد كامل لا يقل عن 300 صفحة، ولكني أختصر ذلك هنا بإيضاحات ونصوص تفي بالغرض وتصلح للقياس عليها وتكون كالباب الذي ينفذ من خلاله طالب العلم إلى ما لم نذكره فنقول وبالله التوفيق:
الإيضاح الأول:
إن التصوف مسلك تعبدي قد يستقيم وقد لا يستقيم بقدر بعده أو قربه من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، فليس كل من سمي صوفيا مقبولا ولا كل ما يسمى تصوفا مقبولا، كما لا تقبل الأمة كل ما يسمى توحيدا أو أصولا أو فقها حتى يكون على الجادة، ألا ترى أن المعتزلة ابتدعوا مذهبا سموه العدل والتوحيد، كما اخترع غيرهم عقائد وسموها أسماء حسنة وهي في مضمونها قبيحة وبدعة وقد ردها عليهم الأئمة، واصطلح الجمهور ـ تجنبا لشذوذ العقائد ـ على ما حرره إماما الهدى أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي، وعدوا ما سواهما من العقائد شاذا بعيدا عن الصواب وجادة الطريق وإن سمي عقيدة وتوحيدا وعدلا.
كما أن فتاوى بعض الصحابة والتابعين في الحلال والحرام نقلت على خلاف المعمول به والصواب، فسماها الأئمة فتاوى شاذة وردوها وإن سماها أهل البدع فقها، فتجنبا للعب في دين الله وشرعة اتفقت الأمة على المذاهب الأربعة وردوا ما سواها، ولم يحفلوا بهذا السوى وإن سمي فقها ومذهبا.
فكذلك التصوف ليس كله مقبولا ولا كله بمرضى، وقد كان لبعض الصحابة والتابعين مسالك في العبادة صعبة على خلاف الدليل، ومن عرف سيرة أبي ذر يعلم أن زهده وورعه بلغ به إلى تحريم الادخار! وعلى هذا المهيع في التشدد سلك جماعة من التابعين، وقد كان في الزهاد من لا يحفل بالفقه ولا ينضبط في أحواله وأقواله، فاصطلحت الأمة على قبول تصوف راق بعيد عن الشذوذ في العقائد والأصول والفروع ونسبوه إلى أشهر من قام بأعبائه والتحقق به وهو أبو القاسم الجنيد البغدادي الذي مثل التصوف أحسن تمثيل وجمع بين الحقيقة والشريعة، وتلقى فقهه عن أبي ثور صاحب الشافعي، فكان من أروع أمثله النسك الصحيح، وعبرت الأمة عن هذا الطريق والمسلك بطريقة الجنيد وعنها تفرعت الطرق الصوفية الملتزمة بهذه القواعد، فكل من خرج عنها فليس هو التصوف المقبول عند الأمة، فإذا تقرر ذلك عندك أيها الأخ الكريم فاعلم أن وقت الشافعي كان هناك تصوف غير جنيدي كما كانت هناك عقائد غير سنية وعلم كلام غير مستقيم كما كانت هناك تفقهات عوجاء هوجاء، ومن هنا نقول بأن إنكار الشافعي وغير الشافعي على التصوف إنما هو إنكار على بعض الممارسات التي يجب إنكارها، وأن ما أنكره الشافعي ليس هو التصوف الجنيدي الذي قام به سادات يعرفهم الشافعي نفسه ويحبهم، وليس هو ما قام به تلميذ تلميذه الجنيد البغدادي، فلا يكون المذموم على لسان الشافعي والمقصود بالنقد هو التصوف الذي يقره جمهور الأمة، ونحن كلنا مع الشافعي في نقده لما لا يجوز في الشرع، فهذا هو الإيضاح الأول.
الإيضاح الثاني:
أن التصوف القديم يدور حول الزهد والورع، إلا أن كثيرا من أرباب التصوف حققوا هذا المعنى بالمبالغة والتشديد في ذلك، فامتازوا بذلك عن غيرهم، ومن نظر في سيرة الإمام وجد شيئا من ذلك عنه، فمن شاء طالع ترجمته في "حلية الأولياء" لأبي نعيم وقد جمع فيه الصوفية فذكر منهم الشافعي، ومن شاء قرأ في المجلد الثاني من "مناقب الشافعي" للإمام البيهقي "باب ما يستدل به على اجتهاد الشافعي رحمه الله في طاعة ربه وزهده في الدنيا وحضه عليه" وفي كتب التراجم شيء غير قليل من ذلك عن الشافعي، ومما يذكرك بسيرة أهل التصوف أن تقرأ في هذه المصادر عن الشافعي أنه:
ـ ما شبع منذ عشرين سنة.
ـ وأنه شبع شبعة فأدخل يده في فمه فتقيأها.
ـ وأنه ما فرغ من الفقر قط.
ـ أنس بالفقر حتى صار لا يستوحش منه.
ـ كان يمسك العكاز يتذكر به الرحيل عن الدنيا.
ـ وأراد أن يكسر هيبته المفرطة فحلف على نفسه أن لا ينام أياما إلا والرحى عند رأسه يطحن بها.
ـ وكان لا يتطيب بالماورد لموضع نكهته الشبيهة بالمسكر!!
وأما قيام الليل وقراءة القرآن فحدث ولا حرج..
وهذا المهيع الذي كان عليه الشافعي هو الذي أنتج صوفيا من طراز أبي ثور الذي أنتج صوفيا من طراز الجنيد، وهذا الجنيد مترجم في طبقات الشافعية، وهل الجنيد البغدادي إلا تلميذ تلاميذ الشافعي، فالشافعي نفسه أحد مصادر التصوف الإسلامي المقطوع به بالتلقي والصحبة بلا ريب، ودونك أئمة الشافعية على توالي التاريخ فإنهم أئمة التصوف، وهذا المشرق بأكمله ترى مشاهير الصوفية على مذهب الشافعي، وإلا فأين تضع أمثال الروذباري والقفال وأبي حامد الغزالي والجويني وأمثال الإمام الكبير أبي القاسم القشيري والسهروردي والنووي؟؟ فهل ضل الشافعية الطريق والصواب حينما قبلوا التصوف مخالفين بذلك هدي إمامهم الإمام الشافعي؟؟!! اللهم لا.
وهذا الإمام الحاكم النيسابوري الشافعي مؤلف المستدرك على الصحيحين وتلميذ ابن خزيمة وابن حبان الشافعيين يقول في مستدركه بعد ثلة من الأحاديث والأخبار في الزهد والتنسك:
((حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب العبدي ببغداد ثنا جعفر بن محمد بن شاكر ثنا محمد بن سابق ثنا مالك بن مغول عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: لقد كان أصحاب الصفة سبعين رجلا ما لهم أردية.
قال الحاكم تأملت هذه الأخبار الواردة في أهل الصفة فوجدتهم من أكابر الصحابة رضي الله عنهم ورعا وتوكلا على الله عز وجل وملازمة لخدمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم اختاره الله تعالى لهم ما اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم من المسكنة والفقر والتضرع لعبادة الله عز وجل وترك الدنيا لأهلها وهم الطائفة المنتمية إليهم الصوفية قرنا بعد قرن فمن جرى على سنتهم وصبرهم على ترك الدنيا والأنس بالفقر وترك التعرض للسؤال فهم في كل عصر بأهل الصفة مقتدون وعلى خالقهم متوكلون. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
تعليق الذهبي قي التلخيص: على شرط البخاري ومسلم)) اهـ.
ويقول الحاكم النيسابوري في مستدركه: ((.. والصوفية طائفة من طوائف المسلمين فمنهم أخيار ومنهم أشرار لا كما يتوهمه رعاع الناس وعوامهم، ولو علموا محل الطبقة الأولى منهم من الإسلام وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمسكوا عن كثير من الوقيعة فيهم.
فأما أهل الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أساميهم في الأخبار المنقولة إلينا متفرقة ولو ذكرت كل حديث منها بحديثه وسياقة متنه لطال به الكتاب ولم يجيء بعض أسانيدها على شرطي في هذا الكتاب فذكرت الأسامي من تلك الأخبار على سبيل الاختصار وهم: أبو عبد الله الفارسي وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح وأبو اليقظان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود الهذلي والمقداد بن عمرو بن ثعلبة وقد كان الأسود بن عبد يغوث تبناه فقيل المقداد بن السود الكندي وخباب ابن الأرت وبلال بن رباح وصهيب بن سنان بن عتبة بن غزوان وزيد بن الخطاب أخو عمر وأبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو مرثد كناز بن حصين العدوي وصفوان بن بيضاء وأبو عبس بن جبر وسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب وعكاشة بن محصن الأسدي ومسعود بن الربيع القاري وعمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو وعويم بن ساعدة وأبو لبابة بن عبد المنذر وسالم بن عمير بن ثابت وكان أحد البكائين من الصحابة وفيه نزلت {وأعينهم تفيض من الدمع حزنا} وأبو البشر كعب بن عمرو وخبيب بن يساف وعبد الله بن أنيس وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وعتبة بن مسعود الهذلي وكان عبد الله بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنهما ممن يأوي إليهم ويبيت معهم في المسجد وكان حذيفة بن اليمان أيضا من يأوي إليهم ويبيت معهم وأبو الدرداء عويمر بن عامر وعبد الله بن زيد الجهني والحجاج بن عمرو الأسلمي وأبو هريرة الدوسي وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن الحارث القاري والسائب بن خلاد وثابت بن وديعة رضي الله عنهم أجمعين.
قال الحاكم رضي الله عنه: علقت هذه الأسامي من أخبار كثيرة متفرقة فيها ذكر أهل الصفة والنازلين معهم المسجد فمنهم من تقدمت هجرته مثل عمار بن ياسر وسلمان وبلال وصهيب والمقداد وغيرهم ومنهم من تأخرت هجرته فسكن المسجد في جملة أهل الصفة ومنهم من أسلم عام الفتح ثم ورد معه وقعد في أهل الصفة إذا لم يأو بالمدينة إلى أهل ولا مال ولا يعد في المهاجرين لقوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإن مما أرجو من فضل الله عز وجل أن كل من جرى على سنتهم في التوكل والفقر إلى يوم القيامة أنه منهم وممن يحشر معهم وإن كل من أحبهم وإن يرجع إلى دنيا وثروة فمرجو له ذلك أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: من أحب قوما حشر معهم)) اهـ.
أترى الشافعي يتجاسر على الطعن في مثل هؤلاء؟!! فهذا كلام أحد أئمة الشافعية، وبعيد كل البعد أن يتعمد الشافعي تناول أناس نعلم على القطع أن أكثرهم في ذلك العصر إنما كانوا على مهيع هؤلاء الصحابة والتابعين، بل كثير من الصحابة والتابعين كانوا على هذه الأخلاق ومنهم ورث من بعدهم، فهل يتصور أن يتناولهم الشافعي بسوء فيقع في السلف من الصحابة والتابعين؟ بل لا شك أنه كان معظما لهم وعلى هذا سائر أئمة الشافعية المشهورين، ولو أردنا سرد أسمائهم لطال الأمر، وحسبك أن تتصفح طبقات وتراجم الشافعية، فإنك لا ترى إلا صوفيا أو موافقا، وليس فيهم من يذم التصوف، بل هم لسان واحد في مدحه والثناء على أربابه، فمن أين أخذ هؤلاء الشافعية تعظيم التصوف؟ وكيف ساغ لهم ذلك لو كان التصوف عند إمامهم مذموما نصا؟! وحسبك أن الإمام البيهقي الملقب بالشافعي الثاني كان على طريق التصوف وهو أعلم الناس بالشافعي وهو جامع نصوص مذهبه، فكيف يكون الشافعي ذاما للتصوف والصوفية على الإطلاق الذي يحاوله المخالف ثم نجد أئمة أصحابه قائلين بالتصوف؟! فاحفظ هذا فإنه مهم، وليس أمام المخالف إزاء هذا الواقع إلا أن يرجع عن قوله بإطلاق الذم أو أن يركب الحماقة فيزعم أن الشافعية قد خالفوا الشافعي!
الإيضاح الثالث:
أن الإمام الشافعي إمام عظيم من أئمة الأمة، وكلامه في ذم قوم أو مدحهم من المسلمين له وقعه الخطر، فلا بد قبل حكاية قوله في ذلك أن يتفحص النقل عنه فربما يكون غير صحيح، فعلى من أراد أن يحتج بكلام للشافعي أن ينقله من مصدر معتمد وأن يحقق الأسانيد، وأن يتتبع المعروف منها والمشهور دون الشاذ والمنكر.
وعند فحص هذه الأسانيد لا بد أن نعرف أدوات الفحص وقواعد أهل الحديث والجرح والتعديل في ذلك، فربما سلك الناظر في السند مسلكا ينتهي به إلى تصحيح الخبر غافلا عن وجود مسالك أخرى لا يقوم الخبر معها على الصحة، ويكون ضعيفا، فما يكون محل أخذ ورد بين أهل الحديث بحيث يصححه قوم ويضعفه آخرون لا يجوز أن نأخذه أخذا مسلما ونبني عليه أن الشافعي قاله قطعا؟! فإن كثيرا من الأخبار التي يصححها المخالف تكون قابلة للتضعيف على قواعد بعض أهل الحديث، لأنهم مختلفون في القواعد الحديثية، وذلك كاختلافهم في الأخذ
برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حتى قال أحمد إن لم تخني الذاكرة: أهل الحديث إن شاؤوا أخذوا برواية عمرو.. وإن شاؤوا تركوا! وكاختلافهم في رواية المبتدع وكاختلافهم في التوثيق فمنهم من يوثق المجهول الحال برواية الثقات عنه ومنهم من لا يوثقه، ومنهم من يعتد بتوثيق واحد ومنهم من يشترط اثنين ومنهم من يشترط ثلاثة وهكذا.. وعلى ذلك فلا يكون المختلف فيه صالحا لبناء الطعن في قوم وفرقة من المسلمين كبيرة المحل عظيمة الوقع.
وإذا صح شيء من ذلك سندا عن الأئمة فلا بد أن ينظر في معناه ووجوهه المحتملة فربما يكون له معنى يغفل عنه المتكلم، فإذا كانت له وجوه لم يجز التعصب لوجه منها دون دليل، وما طرقه الاحتمال القوي سقط به الاستدلال، وكم من كلمة لا بأس بها ولا ضير فيها يجيء المتعصب فيفهمها فهما معوجا فيقع في الخطيئة ويجر وراءه عالم من أتباعه.. فاحذر أخي القارئ فإن الآفة قد لا تكون في السند بل في فهم النص فالحذر كل الحذر من ذلك، ومما يساعد على حسن الفهم وصحته جمع الطرق وتتبع أطراف الخبر، فباجتماع الطرق تتضح المعالم ويظهر المقصود أكثر، فمن جاء إلى فضائل الصحابة وقرأ (لا أشبع الله بطنك) لم يفلح حتى يعرف مقام الصحابة والصحبة ويتتبع الآثار وأقوال السلف في ذلك، ومن هذا الجنس ما روي عن الإمام الشافعي والصوفية.
ذكر الأخبار الواردة عن الشافعي في ذلك
الخبر الأول:
فأول هذه الأخبار ما قد سلف الحديث عنه، ونعيده هنا ونزيد فنقول:
روى البيهقي في "مناقب الشافعي" قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد جعفر بن محمد بن الحارث يقول: سمعت أبا عبد الله: الحسين بن محمد بن بحر يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول: لو أن رجلاً تصوَّف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق.
إسناد الخبر:
ذكرنا أن هذا الخبر في سنده المراغي ولا أعلم من وثقه سوى تلميذه الحاكم، وفي سنده ابن بحر ولا أعلم من وثقه سوى الدارقطني، وفي قبول تعديل الواحد خلاف بين أهل الحديث، وأهل المدينة لا يقبلون تعديل الواحد وهو قول محمد بن الحسن والطحاوي والفقهاء من الشافعية.
وأسلفنا أيضا أن توثيق الدارقطني كتوثيق ابن حبان وذكرنا نص كلامه الذي نقله الحافظ السخاوي، وهذه الطريقة مختلف فيها، والمحققون على عدم كفايتها، فهذا الخبر ليس مما يتفق أهل الحديث على تصحيحه، فلا ينهض حجة علينا في شيء لو كان مما يحتج به.
معنى الخبر:
وعلى فرض صحته بأن وجد موثقون آخرون لمن ذكرنا في السند فله أجوبة:
الجواب الأول:
أن لهذا الخبر معنى وتأويلا غير ما ظنه المخالف، فمقصود الشافعي أن الإنسان إذا بدأ بالتصوف فسرعان من يقع في المحاذير والأخطاء بسبب جهله وعدم فقهه، والصواب أن يبدأ المريد بالتفقه ثم يتصوف، وهذا شأن المحققين كداود بن نصير الطائي تعلم حتى برع ثم تصوف، فهذا مقصود الشافعي فمقصوده ذم التصوف دون تفقه.
فإن قلت: هل يشهد لما ذكرت كلام لأهل العلم؟
فالجواب: نعم يشهد لما ذكرته لك كلام الصوفية أنفسهم الذين لا يشك أنهم صوفية، وإليك بيان ذلك من لسانهم.
قال أبو طالب المكي في "قوت القلوب" ما نصه:
((حدثونا عن الجنيد قال: كنت إذا قمت من عند سري السقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي فقال: نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه للكلام ورده على المتكلمين، قال: فلما وليت سمعته يقول: "جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث" يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً، وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر وكتب الحديث لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم وأنت قد بودئت بالفرع قبل الأصل)) اهـ.
فهذا كلام السري السقطي وتفسير الجنيد وأهل التصوف، فكذلك الشافعي ذم من يبدأ بالفرع دون الأصل، فلا يأتي الظهر أي وقت الصلاة إلا وهو أحمق يعني بالحمق هنا أنه جاهل لا يعرف كيف يتعبد ربه، فكلام الشافعي منزل إذن على هذا الذي شرحناه لك لا على ذم التصوف والزهد فإن هذا محال على الشافعي أن يقصده، وهذا الجواب وحده كاف.
جواب ثان محرج:
يقال للمخالف لا حجة لك في الطعن على الصوفية بهذا الخبر، لأنك لا تدري على التحقيق ما الذي عناه الإمام الشافعي ـ على فرض صحة النقل عنه ـ ما الذي عناه بقوله: ((أحمق)) ؟؟ أعنى من عيوب الدنيا أم من عيوب الآخرة؟؟ فإنه جائز أن يكون عنى بأحمق عيبا من العيوب الدنيوية.
فقد يراد بالأحمق الجلف الجاف، قال في ابن الأثير: (شُبّه الأحْمقُ بهما لضَعْف عَقْله) اهـ. فقد يجوز أن يكون الشافعي أراد بالأحمق الجاف الغليظ، لأن الصوفية يكثرون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فربما استعمل بعضهم الغلظة في ذلك فسماها الشافعي حمقا لذلك المعنى، ويشهد لهذا ما رواه الحفاظ كمسلم والبيهقي والحاكم وغيرهم من أن عبد الله بن الزبير قال لابن عباس: (إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة) فرد عليه ابن عباس: (إنك جلف جاف) . فسماه كذلك لما أغلظ عليه في الأمر والنهي، فإن وقع هذا بين الصحابة فكيف ينكر أن يقع ممن هو دونهم؟؟ فجائز أن يكون الشافعي عنى بأن من صحب بعض الصوفية الذين يستعملون الغلظة لم يبعد الوقت حتى يتأثر بهم فيصير غليظا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلهم. وإذا كان ذلك محتملا أن يكون الشافعي عناه وقصده لم يكن للمخالف حجة فيه على الطعن في الصوفية.
جواب ثالث:
وما المانع أن يكون الشافعي إنما عنى بالحماقة مفارقة بعض الباح من الطعام أو مفارقة الأهل والولد ونحو ذلك، فإن الرجل إذا صحب الصوفية ترك بعض الملذات وربما ساح معهم وترك أهله لغير ضرورة ملحة، ويشهد لهذا ما رواه أبو داود وغيره من قول ابن عباس لمن طلق امرأته ثلاثا: (ينطلق أحدكم فيركب الحموقة) فسمى الطلاق الثلاث حموقة، ومع هذا فإن الشافعي يرى هذه الحموقة مباحة فلا يحرم الطلاق الثلاث في مذهبه, وابن عباس سمى الطلاق حموقة لأن الرجل فارق بها أهله وحرم على نفسه امرأته، فما أنكرتم أن يكون الشافعي ربما عنى هذا المعنى لا ما توهمته عقولكم القاصرة؟.
جواب رابع:
وجائز أن يكون الشافعي إنما عنى بالأحمق الأخرق الذي لا صنعة له أو لا يحسن صنعته، يعني أن من صحب الصوفية ربما أخل بعمله لاشتغاله بالذكر والعبادة أو تركه تزهدا فهو أخرق وأحمق أي لا صنعة له، ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فتعين ضائعا أو تصنع لأخرق) فسمى من لا صنعة له أخرق وهو الأحمق عند أهل اللغة، فليس ببعيد أن يكون الشافعي أراد هذا المعنى من البطالة لا ما تعنونه أنتم من المعاني.
جواب خامس:
وليس ببعيد أن يريد الشافعي بالأحمق من كان كذلك في شؤون دنياه فهو غافل عن المعاصي والشهوات، أبله لا يتفطن لأمور دنياه، وهذا ليس من الذم، بل هو إلى المدح أقرب بدليل ما رواه مسلم في صحيحه وفيه قول الجنة: (وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟) قال الإمام النووي: (أي البله الغافلون الذين ليس لهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر أكثر أهل الجنة البله) اهـ كلام النووي. وعلى هذا المعنى وصف الله تعالى المؤمنات بالغافلات، فعلى هذا ليس ببعيد أن يكون الشافعي أراد مدحهم لا ذمهم.
جواب سادس:
وجائز جدا أن يكون الشافعي أراد أنه أحمق بمعنى أنه غير متكلف لرسوم الصناعات، أي لا يهتم بالزخارف والقوانين المحدثة للصناعات والفنون والحرف وبعض المهارات والتنطعات التي لا نفع ولا ضرر فيها، وينبؤك بإمكان ذلك من الشافعي ما أخرجه الإمام الخطابي في غريب الحديث - (2 / 506) قال:
((أخبرني محمد بن الحسين أخبرني محمد بن يوسف بن النضر أخبرنا ابن عبد الحكم قال رآني الشافعي وأنا أستمد من دواة من ناحية اليسار فقال أشعرت أنه يقال إنه من الحراضة أن يضع الرجل دواته من ناحية اليسار)) اهـ.
وهذا إسناد رجاله حفاظ: محمد بن الحسين هو الآبري محدث مشهور موصوف بالرحلة والحفظ، ألف كتابا في مناقب الشافعي لكن لم أقف على من وثقه من المتقدمين أما المتأخرون كالذهبي وابن ناصر فعبارتهم تفيد توثيقه ولا أعرف مستندهم غير طريقة التوثيق برواية الثقات، ومحمد بن يوسف هو بن بشر بن النضر بن مرداس أبو عبد الله الهروي أحد الحفاظ الثقات، وثقه الخطيب وغيره، وابن عبد الحكم هو الفقيه الإمام المعروف فالإسناد صحيح على طريقة كثير من أهل الحديث.
قال الأصمعي: يقال: (رجل حارضة وهو الأحمق) فهأنت ذا ترى الشافعي يعد وضع المحبرة على جهة اليسار من الحماقة يخاطب بذلك أنجب تلاميذه! فما بالك بالصوفية الذين لا يبالون بهذه القوانين؟! فلا يبعد أن يكون الشافعي أراد هذا لا غيره.
ففي كل هذه المعاني ما هو مقبول ممكن أن يكون الشافعي عناه دون غيره، وأنه لا يلزم أن يكون الشافعي أراد النقص في العقل، ولو أردنا الزيادة في هذه الوجوه لخرج الأمر عن القصد وفي هذا كفاية.
فإن قال المخالف: لم يرد الشافعي من هذا كله شيئا وإنما أراد بالحماقة الضلالة والبدعة وأراد أن الصوفية من الفرق الضالة مثل الرافضة والقدرية والحرورية والمعتزولة.. وأنهم على شر وفسق!!
يقال له: أسمعت عمن سار إلى حتفه بظلفه أو جدع أنفه بكفه؟ فذلك هو أنت، قد جنيت على نفسك بقولك هذا، وانتهيت إلى الحماقة والعي في الفهم، ونحن نبين لك ما جهلته من وجهين إن شاء الله تعالى، فنقول لك: