الحديث الثلاثون
[ عن أبي ثعلبة الخشبي جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره
قوله [ فرض ] أي أوجب وألزم وقوله [ فلا تنتهكوها ] أي فلا تدخلوا فيها وأما النهي عن البحث عما سكت الله عنه فهو موافق لقوله صلى الله عليه و سلم [ ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ]
قال بعض العلماء : كانت بنو إسرائيل يسألون فيجابون ويعطون ما طلبوا حتى كان ذلك فتنة لهم وأدى ذلك إلى هلاكهم وكان الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا ذلك وكفوا عن السؤال إلى فيما لا بد منه وكان يعجبهم أن يجيء الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسمعون ويعون
وقد بالغ قوم حتى قالوا : لا يجوز السؤال في النوازل للعلماء حتى تقع وقد كان السلف يقولون في مثلها : دعوها حتى تنزل إلا أن العلماء لما خافوا ذهاب العلم : أصلوا وفرعوا ومهدوا وسطروا
واختلف العلماء في الأشياء قبل ورود الشرع بحكمها : أهل هي على الحظر أو على الإباحة أو الوقف ؟ على ثلاث مذاهب وذلك مذكور في كتب الأصول
ـــــــــــــــــــــــ
الحديث الحادي والثلاثون
[ عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدى رضي الله تعالى عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس : فقال إزهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ] حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حث على التقلل من الدنيا والزهد فيها وقال [ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ] وقال [ حب الدنيا رأس كل خطيئة ] وفي حديث آخر [ إن الزاهد في الدنيا يريح قلبه في الدنيا والآخرة والراغب في الدنيا يتعب قلبه في الدنيا والآخرة ]
واعلم أن من في الدنيا ضيف وما في يده عارية وأن الضيف مرتحل والعارية مردودة والدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وهي مبغضة لأولياء الله محببة لأهلها فمن شاركهم في محبوبهم أبغضوه وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه و سلم السائل إلى تركها بالزهد فيها ووعد على ذلك حب الله تعالى وهو رضاه عنه فإن حب الله تعالى لعباده رضاه عنهم وأرشده إلى الزهد فيما في أيدي الناس إن أراد محبة الناس له وترك حب الدنيا فإنه ليس في أيدي الناس شئ يتباغضون عليه ويتنافسون فيه إلا الدنيا
وقال صلى الله عليه و سلم [ من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ] السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على بالية لا ينفد عذابها
ـــــــــــــــــــــــ
الحديث الثاني والثلاثون
[ عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار ] حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما مسندا ورواه مالك في الموطإ مرسلا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضا
اعلم أن من أضر بأخيه فقد ظلمه والظلم حرام كما تقدم في حديث أبي ذر [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ] وأما قوله [ لا ضرر ولا ضرار ]
فقال بعضهم : هما لفظان بمعنى واحد تكلم بهما جميعا على وجه التأكيد
وقال ابن حبيب : الضرر عند أهل العربية الإسم والضرار الفعل : فمعنى [ لا ضرار ] أي لا يدخل أحد على أحد ضررا لم يدخله على نفسه ومعنى [ لا ضرار ] لا يضار أحد بأحد
وقال المحاسني : الضرر هو الذي لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة وهذا وجه حسن
وقال بعضهم : الضرر والضرار مثل القتل والقتال فالضرر أن تضر من لا يضرك : والضرار : أن تضر من أضر بك من غير جهة الإعتداء بالمثل والإنتصار بالحق وهذا نحو قوله صلى الله عليه و سلم [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وهذا معناه عند بعض العلماء : لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك كأن النهي إنما وقع على الإبتداء وأما من عاقب بمثل ما عوقب به وأخذ حقه فليس بخائن : وإنما الخائن من أخذ ما ليس له أو أكثر مما له
واختلف الفقهاء في الذي يجحد حقا عليه ثم يظفر المجحود بمال للجاحد قد ائتمنه عليه أو نحو ذلك فقال بعضهم : ليس له أن يأخذ حقه في ذلك لظاهر قوله [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وقال آخرون : له أن ينتصر منه ويأخذ حقه من تحت يده واحتجوا بحديث عائشة في قصة هند مع أبي سفيان وللفقهاء في هذه المسألة وجوه واعتلالات ليس هذا موضوع ذكرها والذي يصح في النظر : أنه ليس لأحد يضر بأخيه سواء ضره أم لا إلا أن له أن ينتصر ويعاقب إن قدر بما أبيح له بالحق وليس ذلك ظلما ولا ضرارا إذا كان على الوجه الذي أباحته السنة
وقال الشيخ أبو عمرو بن صلاح رحمه الله : أسند الدارقطني هذا الحديث من وجوه مجموعها يقوي الحديث ويحسنه وقد نقله جماهير أهل العلم واحتجوا به فعن أبي داود قال : الفقه يدور على خمسة أحاديث وعد هذا الحديث منها قال الشيخ : فعد أبي داود له من الخمسة وقوله فيه : يشعر بكونه عنده غير ضعيف وقال فيه : هو على مثال ضرار وقتال وهو على ألسنة كثير من الفقهاء والمحدثين
[ لاضرر ولا إضرار ] بهمزة مكسورة قبل الضاد
ولا صحة لذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الثالث والثلاثون
[ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر ]
حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين
الذي في الصحيحين من هذا الحديث : قال ابن أبي مليكة : كتب ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى باليمين على المدعى عليه وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ]
قال صاحب الأربعين : روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما مرفوعا من رواية ابن عباس وهكذا رواه أصحاب كتب السنن وغيرهم وقال الأصيلي : لا يصح رفعه إنما هو من قول ابن عباس
قال المصنف : إذا صح رفعه بشهادة الإمامين فلا يضر من وقفه ولا يكون ذلك تعارضا ولا اضطرابا وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ويقتضي أن لا يحكم لأحد بدعواه
قوله [ لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ] استدل به بعض الناس على إبطال قول مالك في سماع قول القتيل ( فلان قتلني ) أو ( دمي عند فلان ) لأنه إذا لم يسمع قول المريض : له عند فلان دينار أو درهم فلأن لا يسمع : دمي عند فلان بطريق الأولى ولا حجة لهم على مالك في ذلك لأنه لم يسند القصاص أو الدية إلى قول المدعي بل إلى القسامة على القتل ولكنه يجعل قول القتيل ( دمي عند فلان ) لوثا يقوى بينة المدعين حتى يبرأوا بالأيمان كسائر أنواع اللوث قوله : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] أجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه في الأموال واختلفوا في غير ذلك : فذهب بعضهم إلى وجوبها على كل مدعى عليه في حق أو طلاق أو نكاح أو عتق أخذا بظاهر عموم الحديث فإن نكل حلف المدعى وثبتت دعواه وقال أبو حنيفة رحمه الله : يحلف على الطلاق والنكاح والعتق وإن نكل لزمه ذلك كله قال : ولا يستحلف في الحدود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الرابع والثلاثون
[ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] رواه مسلم
أورد مسلم هذا الحديث عن طارق بن شهاب قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة فقال : قد ترك ما هناك فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من رأى منكم منكرا فليغيره إلى آخره ] وفي هذا الحديث دليل على أنه لم يعمل بذلك أحد قبل مروان
فإن قيل : كيف تأخر أبو سعيد عن تغيير هذا المنكر حتى أنكره هذا الرجل ؟ قيل : يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في تقديم الخطبة وأن الرجل أنكره عليه ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام ويحتمل أنه كان حاضرا لكنه خاف على نفسه إن غير : حصول فتنة بسبب إنكاره فسقط عنه الإنكار ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم وقد جاء في الحديث الآخر الذي اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجاه في باب صلاة العيدين : أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين أراد أن يصعد المنبر وكانا جميعا فرد عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل فيحتمل أنهما قضيتان وأن قوله [ فليغيره ] فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق الكتاب والسنة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين وأما قوله تعالى : { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } فليس مخالفا لما ذكرنا لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية الكريمة أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم مثل قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وإذا كان كذلك فمما كلف به المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقي وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر ويقصر قال العلماء : ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يقبل في ظنه بل يجب عليه فعله قال الله تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وقد تقدم أن عليه أن يأمر وينهى وليس عليه القبول قال الله تعالى { ما على الرسول إلا البلاغ } قال العلماء : ولا يشترط في الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الأمر وإن كان مرتكبا خلاف ذلك لأنه يجب عليه شيئان : أن يأمر نفسه وينهاها وأن يأمر غيره وينهاها فإذا أخذ بأحدهما لا يسقط عنه الآخر قالوا : ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولاية بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه فإن كان من الأمور الظاهرة مثل الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالإجتهاد ولم يكن للعوام فيه مدخل فليس لهم إنكاره بل ذلك للعلماء والعلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين : أن كل مجتهد مصيب وهو المختار عند كثير من المحققين وعلى المذهب الآخر : أن المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم موضوع عنه لكن على جهة النصيحة للخروج من الخلاف فهو حسن مندوب إلى فعله برفق
قال الشيخ محي الدين رحمه الله : واعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعذاب قال الله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فينبغى لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله عز و جل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال : { ولينصرن الله من ينصره } واعلم أن الأجر على قدر النصب ولا يتركه أيضا لصداقته ومودته : فإن الصديق للإنسان هو الذي يسعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب آخرته أو نقصها وإن حصل بسببه نفع في دنياه
وينبغى للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون من ذلك برفق ليكون أقرب إلى تحصيل المقصود فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه
ومما يتساهل الناس فيه من هذا الباب : ما إذا رأوا إنسانا يبيع متاعا أو حيوانا فيه عيب ولا يبينه فلا ينكرون ذلك ولا يعرفون المشتري بعيبه وهم مسؤولون عن ذلك فإن الدين النصيحة ومن لم ينصح فقد غش وقوله صلى الله عليه و سلم : [ فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] معناه : فلينكره بقلبه وليس ذلك بإزالة وتغيير لكنه هو الذي في وسعه وقوله [ وذلك أضعف الإيمان ] معناه - والله أعلم - أقله ثمرة
وليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر البحث والتفتيش والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيره وقال الماوردى : ليس له أن يقتحم ويتجسس إلا أن يخبره من يثق بقوله أن رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدركه
قوله [ وذلك أضعف الإيمان ] قد ذكر أن معناه أقله ثمرة وقد جاء في رواية أخرى [ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ] أي لم يبق وراء ذلك مرتبة أخرى والإيمان في هذا الحديث بمعنى الإسلام
وفي هذا الحديث دليل على أن من خاف القتل أو الضرب سقط عنه التغيير وهو مذهب المحققين سلفا وخلفا وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الخامس والثلاثون
[ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره التقوى ههنا - ويشير إلى صدور ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ] رواه مسلم
قوله [ لا تحاسدوا ] الحسد : تمني زوال النعمة وهو حرام وفي حديث آخر [ إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو الخشب ] فأما الغبطة فهي تمني حال المغبوط من غير أن يريد زولها عنه وقد يوضع الحسد موضع الغبطة لتقاربهما كما قال النبى صلى الله عليه و سلم : [ لا حسد إلا في اثنتين ] أي لا غبطة
قوله [ ولا تناجشوا ] أصل النجش الختل : وهو الخداع ومنه قيل للصائد ( ناجش ) لأنه يختل الصيد ويحتال له
قوله [ ولا تباغضوا ] أي لا تتعاطوا أسباب التباغض : لأن الحب والبغض معان قلبية لا قدرة للإنسان على اكتسابها ولا يملك التصرف فيها كما قال النبى صلى الله عليه و سلم [ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ] يعني الحب والبغضاء والتدابر : المعاداة وقيل المقاطعة لأن كل واحد يؤتى صاحبه دبره
قوله [ ولا يبع بعضكم على بيع بعض ] معناه أن يقول لمن اشترى سلعة في مدة الخيار : افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله أو أجود بثمنه أو يكون المتبايعان قد تقرر الثمن بينهما وتراضيا به ولم يبق إلا العقد فيزيد عليه أو يعطيه بأنقص وهذا حرام بعد استقرار الثمن وأما قبل الرضى فليس بحرام ومعنى [ وكونوا عباد الله إخوانا ] أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب والنصيحة بكل حال
قوله [ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ] الخذلان : ترك الإعانة والنصرة ومعناه : إذا استعان به في دفع ظالم أو نحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي
قوله [ ولا يحقره ] هو بالحاء المهملة والقاف : أي لا يتكبر عليه ويستصغره قال القاضي عياض ورواه بعضهم بضم الياء وبالخاء المعجمة وبالفاء : أي لا يغدر بعهده ولا ينقض أيمانه والصواب المعروف هو الأول
قوله صلى الله عليه و سلم [ التقوى ها هنا ] ويشير إلى صدره ثلاث مرات وفي رواية : [ إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ] معناه أن الأعمال الظاهرة لا تحصل التقوى وإنما تقع التقوى بما في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته ونظر الله تعالى - أي رؤيته محيطة بكل شئ ومعنى الحديث - والله أعلم : مجازاته ومحاسبته وأن الإعتبار في هذا كله بالقلب
قوله [ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ] فيه تحذير عظيم من ذلك لأن الله تعالى لم يحقره إذ خلقه ورزقه ثم أحسن تقويم خلقه وسخر ما في السموات وما في الأرض جميعا لأجله وإن كان له ولغيره فله من ذلك حصة ثم إن الله سبحانه سماه مسلما ومؤمنا وعبدا وبلغ من أمره إلى أن جعل الرسول منه إليه محمدا صلى الله عليه و سلم فمن حقر مسلما من المسلمين فقد حقر ما عظم الله عز و جل وكافيه ذلك فإن من احتقار المسلم للمسلم : أن لا يسلم عليه إذا مر ولا يرد عليه السلام إذا بدأه به ومنها : أن يراه دون أن يدخله الله الجنة أو يبعده من النار وأما ما ينقمه العاقل على الجاهل والعدل على الفاسق فليس ذلك احتقارا يعنى المسلم بل لما اتصف به الجاهل من الجهل والفاسق من الفسق فمتى فارق ذلك راجعه إلى احتفاله به ورفع قدره
ــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث السادس والثلاثون
[ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ] رواه مسلم بهذا اللفظ
هذا الحديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب فيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما يتيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة أو غير ذلك ومعنى تنفيس الكربة إزلتها قوله [ من ستر مسلما ] الستر عليه أن يستر زلاته والمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفا بالفساد وهذا في ستر معصية وقعت وانقضت أما إذا علم مصيته وهو متلبس بها فيجب المبادرة بالإنكار عليه ومنعه منها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إن لم يترتب على ذلك مفسدة فالمعروف بذلك لا يستر عليه لأن الستر على هذا يطمعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرمات وجسارة غيره على مثل ذلك بل يستحب أن يرفعه إلى الإمام إن لم يخف من ذلك مفسدة وكذلك القول في جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب تجريحهم عند الحاجة ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة قوله : [ والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ] هذا الإجمال لا يسع تفسيره إلى أن منه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه ينبغي أن لا يجبن عن إنفاذ قول أو صدع بحق إيمانا بأن الله تعالى في عونه وفي الحديث : فضل التيسير على المعسر وفضل السعي في طلب العلم ويلزم من ذلك فضل الإشتغال بالعلم والمراد العلم الشرعي ويشترط أن يقصد به وجه الله تعالى إن كان شرطا في كل عبادة قوله صلى الله عليه و سلم : [ وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ] هذا دليل على فضل الإجتماع على تلاوة القرآن في المساجد و [ السكينة ] ها هنا قيل : المراد بها الرحمة وهو ضعيف لعطف الرحمة عليها وقال بعضهم : السكينة الطمأنينة والوقار وهذا أحسن وفي قوله [ وما اجتمع قوم ] هذا نكرة شائعة في جنسها كأنه يقول : أي قوم اجتمعوا على ذلك كان لهم ما ذكره من الفضل كليه فإنه لم يشترط صلى الله عليه و سلم هنا فيهم أن يكونوا علماء ولا زهادا ولا ذوي مقامات ومعنى [ حفتهم الملائكة ] أي حافتهم من قوله عز و جل { حافين من حول العرش } أي محدقين محيطين به مطفين بجوانبه فكأن الملائكة قريب منهم قربا حفتهم حتى لم تدع فرجة تتسع لشيطان قوله [ وغشيتهم الرحمة ] لا يستعمل ( غشي ) إلا في شئ شمل المغشى من جميع أجزائه قال الشيخ شهاب الدين بن فرج : والمعنى في هذا فيما أرى أن غشيان الرحمة يكون بحيث يستوعب كل ذنب تقدم إن شاء الله تعالى قوله [ وذكرهم الله فيمن عنده ] يقتضي أن يكون ذكر الله تعالى لهم في الأنبياء وكرام الملائكة والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث السابع والثلاثون
[ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ]
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ وقوله عنده إشارة إلى الإعتناء بها وقوله كاملة للتأكيد وشدة الإعتناء بها وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها كتبها الله عنه حسنة كاملة فأكدها بـ ( كاملة ) وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بـ ( واحدة ) ولم يؤكدها بـ ( كاملة ) فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ وقوله [ عنده ] إشارة إلى الإعتناء بها وقوله [ كاملة ] للتأكيد وشدة الإعتناء بها وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها [ كتبها الله عنه حسنة كاملة ] فأكدها بـ ( كاملة ) وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بـ ( واحدة ) ولم يؤكدها بـ ( كاملة ) فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق
قال الشراح لهذا الحديث : هذا حديث شريف عظيم بين فيه النبى صلى الله عليه و سلم مقدار تفضل الله عز و جل على خلقه : بأن جعل هم العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة وجعل همه بالسيئة وإن لم يعملها حسنة وإن عملها سيئة واحدة فإن عمل الحسنة كتبها الله عشرا وهذا الفضل العظيم بأن ضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات وإنما جعل الهم بالحسنات حسنة لأن إرادة الخير هو فعل القلب لعقد القلب على ذلك
فإن قيل : فكان يلزم على هذا القول : أن يكتب لمن هم بالسيئة ولم يعملها سيئة لأن الهم بالشئ عمل من أعمال القلب أيضا قيل : ليس كما توهمت فإن من كف عن الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر فجوزى على ذلك بحسنه وقد جاء في حديث آخر : [ إنما تركها من جرائى ] أى من أجلى وهذا كقوله صلى الله عليه و سلم : [ على كل مسلم صدقة ] قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : [ فليمسك عن الشر فإنه صدقة ] ذكره البخارى في كتاب الأدب فأما إذا ترك السيئة مكرها على تركها أو عاجزا عنها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل في معنى هذا الحديث
قال الطبرى : وفي هذا الحديث تصحيح مقالة من قال : إن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك ورد لمقالة من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من أعمال العبد أو سمع والمعنى : أن الملكين الموكلين بالعبد يعلمان ما يهم به بقلبه ويجوز أن يكون قد جعل الله تعالى لهم سبيلا إلى علم ذلك كما جعل لكثير من الأنبياء سبيلا في كثير من علم الغيب وقد قال الله في حق عيسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } ونبينا صلى الله عليه و سلم قد أخبر بكثير من علم الغيب فيجوز أن يكون قد جعل الله للملكين سبيلا إلى علم ما في قلب بني آدم من خير أو شر فيكتبانه إذا عزم عليه وقد قيل : إن ذلك بريح تظهر لهما من القلب وللسلف اختلاف في أى الذكرين أفضل : ذكر القلب أو ذكر العلانية ؟ هذا كله قول ابن خلف المعروف بابن بطال وقال صاحب الإفصاح في كلام له : وإن الله تعالى لما صرم هذه الأمة أخلفها على ما قصر من أعمارها بتضعيف أعمالها فمن هم بحسنة احتسب له بتلك الهمة حسنة كاملة لأجل أنها همة مفردة وجعلها كاملة لئلا يظن ظان أن كونها مجرد همة تنقص الحسنة أو تهضمها : فبين ذلك بأن قال [ حسنة كاملة ] وإن هم بالحسنة وعملها فقد أخرجها من الهمة إلى ديوان العمل وكتب له بالهمة حسنة ثم ضوعفت يعني : إنما يكون ذلك على مقدار خلوص النية وإيقاعها في مواضعها ثم قال : بعد ذلك [ إلى أضعاف كثيرة ] هنا نكرة وهي أشمل من المعرفة فيقتضي على هذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يكون ثم يقدر ليتناول هذا الوعد الكريم بأن يقول : إذا تصدق الآدمي بحبة بر فإنه يحسب له ذلك في فضل الله تعالى : أنه لو بذرت تلك الحبة في أزكى أرض وكأن لها من التعاهد والحفظ والري ما يقتضيه حالها ثم إستحصدت فظهر حاصلها ثم قدر لذلك الحاصل أن يدرس في أزكى أرض وكان التعاهد له على ما تقدم ذكره ثم هكذا في السنة الثانية ثم في السنة الثالثة والرابعة وما بعدها ثم يستمر ذلك إلى يوم القيامة فتأتي الحبة من البر والخردل والخشخاش أمثال الجبال الرواسي وإن كانت الصدقة مثقال ذرة من جنس الإيمان فإنه ينظر إلى ربح شئ يشتري في ذلك الوقت ويقدر أنه لو بيع في أنفق سوق في أعظم بلد يكون ذلك الشئ فيه أشد الأشياء نفاقا ثم تضاعف ويتردد هذا إلى يوم القيامة فتأتي الذرة بما يكون مقدارها على قدر عظم الدنيا كلها : وعلى هذا جميع أعمال البر في معاملة الله عز و جل إذا خرجت سهامها عن نية خالصة وأفرغت في نوع قوس الإخلاص
ومن ذلك أيضا : أن فضل الله تعالى يتضاعف بالتحويل في مثل أن يتصدق الإنسان على فقير بدرهم فيؤثر الفقير بذلك الدرهم فقيرا آخر هو أشد منه فقرا فيؤثر به الثالث رابعا والرابع خامسا وهكذا فيما طال فإن الله تعالى يحسب للمتصدق الأول بالدرهم عشرة فإذا تحول إلى الثاني انتقل ذلك الذي كان للأول إلى الثاني فصار للثاني عشرة دراهم وللأول عن عشر مئات فإذا تصدق بها الثاني صارت له مائة وللثاني ألف وللأول ألف ألف وإذا تصدق بها صارت له مائة وللثاني عشرة آلاف فيضاعف إلى ما لا يعرف مقداره إلى الله تعالى
ومن ذلك أيضا أن الله سبحانه وتعالى إذا حاسب عبده المسلم يوم القيامة وكانت حسناته متفاوتة فيهن الرفيعة المقدار وفيهن دون ذلك فإنه سبحانه بجوده وفضله يحسب سائر الحسنات بسعر تلك الحسنة العليا لأن جوده جل جلاله أعظم من أن يناقش من رضى الله عنه في تفاوت سعر بين حسنتين وقد قال جل جلاله : { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } كما أنه إذا قال العبد في سوق من أسواق المسلمين لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره رافعا بها صوته كتب الله له بذلك ألفي ألف حسنة ومحا عنه ألفي ألف سيئة وبنى له بيتا في الجنة على ما جاء في الحديث وهذا الذي ذكرناه إنما هو على مقدار معرفتنا لا على مقدار فضل الله سبحانه وتعالى فإنه أعظم من أن يحده أو يحصره خلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الثامن والثلاثون
[ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ] رواه البخاري
قال صاحب الإفصاح : في هذا الحديث من الفقه : أن الله سبحانه وتعالى قدم الإعذار إلى كل من عادي وليا : أنه قد آذنه بأنه محاربه بنفس المعاداة وولي الله تعالى هو الذي يتبع ما شرعه الله تعالى فليحذر الإنسان من إيذاء قلوب أولياء الله عز و جل ومعنى المعاداة : أن يتخذه عدوا ولا أرى المعنى إلا من عاداه لأجل ولاية الله أما إذا كانت لأحوال تقتضي نزاعا بين وليين لله محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق غامض فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث فإنه قد جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصومة وبين العباس وعلي رضي الله عنهما وبين كثير من الصحابة وكلهم كانوا أولياء لله عز و جل قوله : [ وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى مما افترضته عليه ] فيه إشارة إلى أنه لا تقدم نافلة على فريضة وإنما سميت النافلة نافلة إذا قضيت الفريضة وإلا فلا يتناولها إسم النافلة ويدل على ذلك قوله : [ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ] لأن التقرب بالنوافل يكون بتلو أداء الفرائض ومتى أدام العبد التقرب بالنوافل أفضى ذلك به إلى أن يحبه الله عز و جل ثم قال : [ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ] إلى آخره فهذه علامة ولاية الله لمن يكون الله قد أحبه ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له بسماعه ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ولا يمد يده إلى شئ ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه ولا يسعى برجله إلى فيما أذن الشرع في السعي إليه فهذا هو الأصل إلا أنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله غير أهل الذكر : توصيلا إلى أن يسمع لهم وكذلك في المبصرات والمتناولات والمسعى إليه تلك صفة عالية نسأل الله أن يجعلنا من أهلها قوله : [ ولئن استعاذني لأعيذنه ] يدل على أن العبد إذا صار من أهل حب الله تعالى لم يمتنع أن يسأل ربه حوائجه ويستعيذ به ممن يخافه والله تعالى قادر على أن يعطيه قبل أن يسأله وأن يعيذه قبل أن يستعيذه ولكنه سبحانه متقرب إلى عباده بإعطاء السائلين وإعاذة المستعيذين وقوله : [ استعاذني ] ضبطوه بالنون والباء وكلاهما صحيح وقوله في أول الحديث [ فقد آذنته بالحرب ] بهمزة ممدودة : أي أعلنته أنه محارب لي
ـــــــــــــــــــــــــ
الحديث التاسع والثلاثون
[ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله تجاوز لي عن أمتى الخطأ والنسيان وما اسكترهوا عليه ] حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما
وقد جاء في التفسير في قوله عز و جل : { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فجاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل في أناس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا : كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وأن له الدنيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا قولوا : سمعنا وأطعنا واشتد ذلك عليهم ومكثوا حولا فأنزل الله تعالى الفرج والرحمة بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله تعالى : قد فعلت إلى آخرها فنزل التخفيف ونسخت الآية الأولى قال البيهقي : قال الشافعي رحمه الله : قال الله جل ثناؤه { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }
وللكفر أحكام فلما وضع الله عنه الكفر سقطت أحكام الإكراه عن القول كلها لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو أصغر منه ثم أسند عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [ إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وأسند عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : [ لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ] وهو مذهب عمر وابن عمر وابن الزبير وتزوج ثابت بن الأحنف أم ولد لعبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب فأكره بالسياط والتخويف على طلاقها في خلافة ابن الزبير فقال له ابن عمر : لم تطلق عليك ارجع إلى أهلك وكان ابن الزبير بمكة فلحق به وكتب له إلى عامله على المدينة : أن يرد إليه زوجته وأن يعاقب عبد الرحمن بن زيد فجهزتها له صفية بنت أبي عبيد زوجة عبدالله بن عمر وحضر عبد الله بن عمر عرسه والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــ
الحديث الأربعون
[ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنكبي فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ] وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه البخاري
قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف في شرح البخاري : قال أبو الزناد : معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الإقتناء والزهد في الدنيا قال أبو الحسن : بيان ذلك أن الغريب قليل الإنبساط إلى الناس مستوحش منهم إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه ويأنس به ويستكثر من مخالطته فهو ذليل خائف وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره ليس معه إلا زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده وهذا يدل على إيثار الزهد في الدنيا ليأخذ البلغة منها والكفاف كما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره كذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه وقال العز علاء الدين بن يحيى بن هبيرة رحمه الله :
في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حض على التشبه بالغريب لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم ولا يجزع أن يراه أحد على خلاف عادته في الملبوس ولا يكون متدابرا معهم وكذلك عابر السبيل لا يتخذ دارا ولا يلج في الخصومات مع الناس يشاحنهم ناظرا إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة فكل أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا لأن الدنيا ليست وطنا له لأنها تحبسه عن داره وهي الحائلة بينه وبين قراره
وأما قول ابن عمر : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء فهو حض منه على أن المؤمن يستعد أبدا للموت والموت يستعد له بالعمل الصالح وحض على تقصير الأمل : أي لا تنتظر بأعمال الليل الصباح بل بادر بالعمل وكذلك إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وتؤخر أعمال الصباح إلى الليل قوله [ وخذ من صحتك لمرضك ] حض على اغتنام صحته فيجتهد فيها خوفا من حلول مرض يمنعه من العمل وكذلك قوله [ ومن حياتك لموتك ] تنبيه على اغتنام أيام حياته لأن من مات انقطع عمله وفات أمله وعظمت حسرته على تفريطه وندمه وليعلم أنه سيأتي عليه زمان طويل وهو تحت التراب لا يستطيع عملا ولا يمكنه أن يذكر الله عز و جل فيبادر في زمن سلامته فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفه وقال بعضهم : قد ذم الله تعالى الأمل وطوله وقال : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } وقال علي رضي الله عنه : ارتجلت الدنيا مدبة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل وقال أنس رضي الله عنه : خط النبي صلى الله عليه و سلم خطوطا فقال : [ هذا الإنسان وهذا الأمل وهذا الأجل فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب ] وهو أجله المحيط به وهذا تنبيه على تقصير الأمل واستقصار الأجل خوف بغتته ومن غيب عنه أجله فهو جدير بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال غرة وغفلة فليرض المؤمن نفسه على استعمال ما نبه عليه ويجاهد أمله وهواه فإن الإنسان مجبول على الأمل قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : [ رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أطين حائطا لي أنا وأمي فقال : ما هذا يا عبد الله ؟ فقلت : يا رسول الله قد وهى فنحن نصلحه فقال : الأمر أسرع من ذلك ] نسأل الله العظيم أن يلطف بنا وأن يزهدنا في الدنيا وأن يجعل رغبتنا فيما لديه وراحتنا يوم القيامة إنه جواد كريم غفور رحيم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الحادي والأربعون
[ عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ] حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح
هذا الحديث كقوله سبحانه وتعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وسبب نزولها : أن الزبير رضي الله عنه كان بينه وبين رجل من الأنصار خصومة في ماء فتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ اسق يا زبير وسرح الماء إلى جارك ] يحضه بذلك على المسامحة والتيسير فقال الأنصاري : إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ يا زبير احبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم سرحه ] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أشار على الزبير بما فيه مصلحة الأنصاري فلما أحفظه الأنصاري بما قال - أي أغضبه - استوعب للزبير حقه الذي يجب له فنزلت هذه الآية وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث آخر أنه قال [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ] قال أبو الزناد : هذا من جوامع الكلم : لأنه قد جمعت هذه الألفاظ اليسيرة معاني كثيرة لأن أقسام المحبة ثلاثة : محبة إجلال وعظمة كمحبة الوالد ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ومحبة استحسان ومشاكلة كمحبة سائر الناس فحصر أصناف المحبة قال ابن بطال : ومعنى الحديث - والله أعلم - أن من استكمل الإيمان علم أن حق رسول الله صلى الله عليه و سلم وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لأن بالرسول صلى الله عليه و سلم استنقذه الله عز و جل من النار وهداه من الضلال والمراد بالحديث : بذل النفس دونه صلى الله عليه و سلم وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم يقاتلون معه آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وقد قتل أبو عبيدة أباه لإيذائه رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعرض أبو بكر رضي الله عنه يوم بدر لولده عبد الرحمن لعله يتمكن منه فيقتله فمن وجد هذا منه فقد صح أن هواه تبع لما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم
ـــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الثاني والأربعون
[ عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال الله تعالى يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت للك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح
في هذا الحديث بشارة عظيمة وحلم وكرم عظيم وما لا يحصى من أنواع الفضل والإحسان والرأفة والرحمة والإمتنان ومثل هذا قوله صلى الله عليه و سلم [ لله أفرح بتوبة عبده من أحد كم بضالته لو وجدها ] وعن أبي أيوب رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال : كنت قد كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته يقول [ لو لا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم ] وقد جاءت أحاديث كثيرة موافقة لهذا الحديث وقوله [ يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني ] هذا موافق لقوله [ أنا عند ظن عبدى بي فليظن بي ما شاء ] وقد جاء أن العبد إذا أذنب ثم ندم فقال : أي ربي أذنبت ذنبا فاغفر لي ولا يغفر الذنوب إلا أنت قال : فيقول الله تعالى : علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت له ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة فيقول الله عز و جل في كل مرة مثل ذلك ثم يقول : [ اعمل ما شئت فقد غفرت لك ] يعني لما أذنبت واستغفرت
واعلم أن للتوبة ثلاثة شروط : الإقلاع عن المعصية والندم على ما فات والعزم على أن لا يعود وإن كانت حق آدمي فليبادر بأداء الحق إليه والتحلل منه وإن كانت بينه وبين الله تعالى وفيها كفارة فلا بد من فعل الكفارة وهذا شرط رابع فلو فعل الإنسان مثل هذا في اليوم مرارا وتاب التوبة بشروطها فإن الله يغفر له
قوله [ على ما كان منك ] أي من تكرار معصيتك [ ولا أبالي ] أي ولا أبالي بذنوبك قوله [ يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ] أي لو كانت أشخاصا تملأ ما بين السماء والأرض وهذا نهاية الكثرة ولكن كرمه وحلمه سبحانه وعفوه أكثر وأعظم وليس بينهما مناسبة ولا التفضيل له هنا مدخل فتتلاشى ذنوب العالم عند حلمه وعفوه قوله [ يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ] أي أتيتني بما يقارب مثل الأرض قوله [ ثم لقيتني ] أي مت علي الإيمان لا تشرك بي شيئا ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه وقد قال الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقد قال صلى الله عليه و سلم [ ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ] وقال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ حسن الظن بالله من حسن عبادة الله ]
ـــــــــــــــــــــــ
تم الكتاب ولله الحمد