الرفاعي ســــــيـد أحــمــد الـعطـــار

مرحبا بأحباب الله وحبيبه المصطفى

صلى الله عليه وآله وسلم

( سجلوا معنا وساهموا ) بأرائكم البناءة

نحو مجتمع صوفى خالى من الشوائب

وأزرعوا هنا ماتحبوا أن تحصدوه يوم العرض

على الكريم الرحمن الرحيم

أهلاً بكم ومرحباً
الرفاعي ســــــيـد أحــمــد الـعطـــار

مرحبا بأحباب الله وحبيبه المصطفى

صلى الله عليه وآله وسلم

( سجلوا معنا وساهموا ) بأرائكم البناءة

نحو مجتمع صوفى خالى من الشوائب

وأزرعوا هنا ماتحبوا أن تحصدوه يوم العرض

على الكريم الرحمن الرحيم

أهلاً بكم ومرحباً
الرفاعي ســــــيـد أحــمــد الـعطـــار
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الرفاعي ســــــيـد أحــمــد الـعطـــار

منتدى لمحبي الله ورسوله الذاكرين الله ومكتبة صوفية
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 حالة أهل الحقيقة مع الله

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالخميس 21 يونيو 2012, 3:37 pm



حالة أهل الحقيقة
مع الله عز وجل

تـــــــــأليف
السيد الإمام الشيخ أبو العلمين
أحمد الرفاعي
512- 578 هـ
رضي الله عنه

شرحه وخرج أحاديثه وعلق عليه
الدكتور محمد حسيني مصطفى



بسم الله الرحمن الرحيم
[ مقدمة الكتاب]
قال شيخنا وسيدنا شيخ الطوائف أبو العَلَمَيْن وارثُ رسولِ الثقلين
، القطبُ الغوثُ الجامعُ الحجةُ العارفُ القدوةُ
إمامُ الأولياء السيدُ أحمدُ محيي الدين أبوالعباس الكبير الرفاعي الحسيني
بن السيد أبي الحسن علي بن السيد يحيى بن السيد ثابت ، ابن السيد الحازم بن السيد أحمد بن السيد علي بن السيد الحسن، بن السيد المهدي ، ابن السيد أبي القاسم محمد ، بن السيد الحسن بن السيد الحسين ، بن السيد أحمد ، ابن السيد موسى الثاني ، بن السيد إبراهيم المرتضى ، بن الإمام موسى الكاظم ، بن الإمام جعفر الصادق ، بن الإمام محمد الباقر ، بن الإمام زين العابدين علي ابن زُبدة السادة الأئمة ، وعُمدة قادة الأمة ، الذي امتُحِنَ بأنواع البلاء ، أمير المؤمنين أبي عبدالله الإمام الحسين الشهيد بكربلاء ، ابن إمام الأئمة الأولياء ، وقائد أزمّة الأصفياء ذوي السوابق الكبرى ، والمفاخر والمناقب الوُفْرَى ، باب مدينة العلوم والحِكَم ، السيد الذي كلُّ مقامٍ له ممنوح ، المشبَّه بكبار الأنبياء كآدم وإبراهيم ونوح ، الذي قدرهُ كاسمه حسن وعلي ،
أمير المؤمنين أبي الحسن علي رضوان الله عليه وعليهم أجمعين .

الحمد لله حمداً نصلُ به إلى كشف الحجاب ، ونعَدَُ به من الأحباب
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ،
ونشهدُ أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، وحبيبه وصفيُّهُ
وخيرتُهُ مِنْ خلقه ، بعثه الله بالنورِ السّاطع ، والبيان اللامع ، والسيف القاطع ، فبلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، وأوضح السنّةَ ، وأسّس الشريعة ، ونصح الأمة ، وعَبَدَاللهَ حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فهذه جُمَلٌ نذكر فيها (حالة أهل الحقيقة مع الله)
ولا حول ولا قوةَ إلا بالله
وذلك لترتاض(1) النفوس ، ولتتروّح القلوبُ بنسبة ما ألفت إليه
وإلا فمنبعنا وقتي ، وثريدنا(2) طريّ
من مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، بالتنزُّل الإلهي ، ما فيه قَديد(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحديث الأول
[ من يذوق طعم الإيمان؟ ]

حدثنا الشيخ الإمام المُقْري القاضي الثقة ، علي أبو الفضل الواسطي بمدرسته في واسط ، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن علي بن المهذّب ، قال: أنبأنا أبو بكر أحمد ابن جعفر القطيعي ، قال: أنبأنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد بن الليث بن سعد ، عن ابن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً
وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً(1)"
وهذا الذوق المنبعث عن هذا الرضا هو المعرفة بالله تعالى . والمعرفة نورٌ أسكنه الله تعالى قلب من أحبه من عباده ، ولا شي أجل وأعظم من ذلك النور ، وحقيقة المعرفة حياة القلب بالمُحيي (أوَمَن كان مَيتاً فأحييناه)(2) وقال تعالى : (ليُنذر من كان حياً)(3)، وقال تعالى (فلنُحييّنه حياةً طيبة)(4)، وقال: سبحانه : (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم)(5)، فمن ماتت نفسه ؛ بعدت عنه دنياه ، ومن مات قلبه بعد عنه مولاه ، وسُئل ابن السماك(6): متى يعرف العبد أنه على حقيقة المعرفة ؟ قال: إذا شاهد الحق بعين اعتباره فانياً عن كل من سواه، وقيل: المعرفة فقدان رؤية ما سواه ، بحيث يصير ما دون الله تعالى عنده أصغر مِن خردلة ، قال تعالى: (قل الله ثم ذَرْهُم)(1)، مَن نظر إلى الله تعالى لم ينظر لا إلى الدنيا ولا إلى العقبى ، وشمس قلب العارف أضوأ من شمس النهار
وأبهج منها في مطلع الأنوار.

طلعتْ شمسُ من أحَبّكَ ليلاً ... فاستنارتْ فما لديها غروبُ
إنّ شمسَ النهارِ تغربُ ليلاً ... وشموسُ القلوبِ ليست تغيبُ

قال ذو النون(2): إطلاع الحق سبحانه على الأسرار بمواصلة المدد ، كإطلاع الشمس على الأرض بإشراق الأنوار ، فعليكم بتصفية القلوب ، فإنها مواضع نظره ، ومواطن سره ، فإن من عرف الله لا يختار غيره حبيباً سواه ، وفي الخبر: "إن الله تعالى خلق الخَلْقَ في ظُلمة ، ثم ألقى عليهم شيئاً من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلَّ وغوى"(3) وهو نور يخرج من سرادق المِنّة ، فيقع في القلب ، فيستنيرُ به الفؤاد ، ويبلغ شعاعه إلى حُجُب الجبروت ، ولا يحجبه عن الحق الجبروت ، ولا الملكوت ، فيصير العبد في جميع أفعاله وأقواله وحركاته وإرادته في حياته ومماته صائراً إلى النور (الله نور السموات والأرض)
(يهدي الله لنوره من يشاء)(4).

إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معي ... قلبي يراكَ وإن غُيِّبْتَ عن بصري

قال يحيى بن معاذ (1): المعرفةُ قربُ القلب إلى القريب ، ومراقبة الروح للحبيب ، والانفراد عن الكل بالملك المجيب ، وقال ذو النون: هي تخلية السر عن كل إرادة ، وترك ما عليه العادة ، وسكون القلب إلى الله بلا علاقة. وقال بعضهم: هيئتها جنون ، وصورتها جهل ، ومعناها حَيْرة ؛ فإن العارف يشغله علم الله تعالى عن جميع الأسباب ، فإذا نظر إليه الخَلْق استجهلوه ، ويكون أبداً في ميدان العظمة ولِهاً بين الخَلْق ، فإذا رأوه استجنُّوه ، ويكون بكلّيته فانياً بحب جلال عظمته تعالى ، مشغولاً عن مَن سواه ، فإذا أبصروه استدهشوه ، ولا يقدر أحد أن يُخبِر عن المعرفة بالله تعالى ، فإنها منه بَدت وإليه تعود . فالعارف فانٍ تحت اطِّلاع الحق تعالى ، باقٍ على بساط الحق بلا نفس ولا سبب ، فهو ميّتٌ حي ، وحيٌّ ميّت ، ومحجوبٌ مكشوف ، ومكشوفٌ محجوب ، تراه والهاً على باب أمره ، هائماً في ميدان برّه، مدْلالاً تحت جميل ستره ، فانياً تحت سلطان حكمه ، باقياً على بساط لُطفه . العارفون صارت أنفسهم فانية تحت بقائه وسلطانه عن كل حول وقوة ، تراهم باقين بحوله وقوته ، متلاشين عن كونهم وأسبابهم تحت جلال ألوهيته ، ملوكاً به دون مملكته ، فقرهم به وغناهم به ، وعزّهم به وذلّهم به.
يُروَى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود اعرفني واعرف نفسك. فتفكّر داود فقال: إلهي عرفتك بالفردانية والقدرة والبقاء ، وعرفت نفسي بالعجز والفناء. فقال : الآن عرفتني. وروي في الخبر: لو عرفتم الله تعالى حق معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل ، ولزالت الجبال بدعائكم مع أنه لا ينتهي أحد ولا يبلغ منتهى معرفته أن الله تعالى أعظمُ من أن ينتهي أحد إلى منتهى معرفته(1). وقال الإمام جعفر الصادق (2) عليه الرضوان والسلام :
لا يعرف الله حق معرفته من التفت منه إلى غيره ، المعرفة هي طيران القلب في سرادق الأُنس والألفة ، جوّالاً في حُجُبِ الجلال والقُدرة ، وهذه حالة من صُمَّت أذناه عن البطالات ، وعميت عيناه عن النظر إلى الشهوات ، وخرس لسانه عن التكلم بالتُّرُّهات(3)،
وقيل لأبي يزيد (4) ترى الخلقَ ، قال: به أراهم ، وسُئل محمد بن واسع (5)
هل عرفت ربك فسكت ساعةً ثم قال :
من عرف الله تعالى قلَّ كلامُهُ ، ودام تحيُّره ، وفني عن صور الأعمال ، وتحيّر مع الاتصال ، مُتقرِّباً في جميع الأحوال ، منقطعاً عن الحال إلى وليّ الحال ، فإن الأمور بحقائقها لا بالحسِّ وصورها.
قال أبو يزيد: ليس على تحقيق بالمعرفة ، من رضي بالحال دون ولي الحال . فإن من عرف الله كَلَّ لسانُه ، ودهش عقله . العارف إن تكلم بحالِه هَلَكْ، وإن سكت احترق . قال أبو بكر الواسطي(1): المعرفة على وجهين: معرفة الإيقان ، ومعرفة الإيمان ، فمعرفة الإيمان شهادةُ اللسان بتوحيد المَلِك الديّان ، والإقرارُ بصدق ما في القرآن ، وأما معرفة الإيقان فهي دوام مشاهدة الفرد الديّان بالجَنان ، وقال بعضهم : هي على ضربين ، الأول هو أن يعرف أن النعمة من الله تعالى ، قال الله تعالى (وما بكم من نعمةٍ فمن الله)(2) فيقوم بشكره ، فيستزيد به النعمة من الله بدليل قوله تعالى : (لئن شكرتم لأزيدنكم)(3)، والثاني رؤية المُنعِم من غير أن يلتفت إلى النعمة فيزيد شوقه إلى المُنعِم ، ويقوم بحق معرفته ومحبته ، وذلك قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله)(4)، (فإن تولّوا فقل حسبي الله)(5)، وقال ذو النون المصري: هي على ثلاثة أوجه : أولها معرفة التوحيد ، وهي لعامة المؤمنين ، والثاني معرفة الحُجّةِ والبيان ، وهي للعلماء والبلغاء والحكماء ، والثالث معرفة صفات الفردانية ، وهي لأهل ولاية الله تعالى وأصفيائه الذين أظهر الله لهم ما لم يُظهر لمن دونهم ، وأعطاهم من الكرامات ما لم يجز أن يوصف ذلك بين يَدَيْ مَن لا يكون أهلاً له ؛ خصّهم الله من بين الخلائق واصطفاهم لنفسه واختارهم له ، فحياتهم رحمة ومماتهم غبطة ، طوبى لهم . وقال غيره: هي على وجهين : معرفة التوحيد ، وهو إثبات وحدانية الواحد القهّار ، ومعرفة المزيد ، وهي التي لا سبيل لأحد إليها .
أقول: هي كشجرةٍ لها ثلاثة أغصان توحيد وتجريد وتفريد ، فالتوحيد بمعنى الإقرار ، والتجريد بمعنى الإخلاص ، والتفريد بمعنى الانقطاع إليه بالكلية في كل حال . وأول مدارج المعرفة التوحيد ، وهو قطع الأنداد(1)، والتجريد ، وهو قطع الأسباب ، والتفريد وهو بمعنى الاتصال بلا سير ولا عين ولا دون ، ولها خمس طرائق. أولها : الخشية في السر والعلانية ، والثانية: الانقياد له في العبودية ، والثالثة : الانقطاع إليه بالكليّة ، والرابعة : الإخلاص له بالقول والفعل والنيّة ، والخامسة: المراقبة في كل خطرة ولحظة.
وحكي عن عبدالباري قال: خرجت مع أخي ذي النون فإذا نحن بصبيان يرمون واحداً بالحجارة ، فقال لهم أخي: ما تريدون منه ؟ قالوا: هذا رجلٌ مجنون ، ومع ذلك يزعم أنه يرى الله تعالى ، قال: فدنونا منه ، فإذا هو شابٌ وسيم ، ظهر عليه سيما العارفين ، فسلَّمنا عليه ، وقلنا: إنهم يزعمون أنك تدَّعي رؤية الله تعالى ، فقال: إليك عني يا بطّال(2)، لو فقدته أقل من طرفةِ عينٍ لَمُتُّ من ساعتي ، وأنشأ يقول:

طَلَبُ الحبيبِ من الحبيبِ رضاهُ ... والقلبُ يعرفُ ربَّهُ ويراهُ
أبداً يلاحِظُه بعَيني قلبهِ ... دونَ العبادِ ، فما يريدُ سِواهُ
يرضَى الحبيبُ من الحبيبِ بقربـه ... ومُنى الحبيبِ من الحبيبِ لقاهُ

فقلت له: أمجنون أنت ؟ فقال: أمّا عند أهل الأرض فنعم ، وأما عند أهل السماء فلا ، قلتُ: فكيف حالك مع المولى ؟ فقال : منذ عرفته ما جفوته ، فقلت منذ كم عرفته ؟ قال: منذ جعل اسمي في المجانين.

الحديث الثاني
[ الكيِّس والعاجز ]

أخبرنا شيخنا الإمام المُقري القاضي أبو الفضل علي الواسطي بمدرسته بواسطٍٍ ، قال: أنبأنا الشريف النقيب أبو الفوارس طرادُ بن محمد بن علي الزينبي ، قراءة عليه ونحن نسمع ، قال : أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد قال : أنبأنا أبو علي الحسين بن صفوان قال: أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، قال: أنبأنا الهيثم بن خارجة ، قال: أنبأنا بقية بن الوليد عني أبي بكر بن أبي مريم قال: حدثني حمزة بن جندب ، عن أبي يعلى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكيِّسُ مَن دانَ نفسه وعَمِلَ لِما بَعْدَ الموت ، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله"(1) فالعمل بسرِّ هذا الحديث ، هو المعرفةُ . نعم ، إن المعرفة من العبد والتعريف من الرب تعالى ، وهي أشرف وأعظم الهدايا التي يُهديها إلى عباده ، فإن الله تعالى إذا أراد أن يختار عبداً من عبيده ويفضّله على من سواه من خَلْقِه، ويطْلِعَ في سِرّه شمسَ المعرفةِ ينظر إليه بعين الفضل والرحمة ، ويفتح له أبواب الهداية ثم يكرمه بالانتباه ، ويوقظه من نومة الغافلين ، ويُنعم ويمُنَّ عليه بشرح القلب ، ويُذهب عنه موت القلب بالفهم ، ويذهب عنه الوهم ، ويُكرِمه بالحياء والخوف واليقين ، ويُذهب عنه الشك وجراءة


الأمن ، فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال ، أشرق فؤاده بنور، فيرى ما دون حُجُبِ الجبروت ، وتشتاق إليه الجِنان ، ويخمد منه لهباتُ النيران ، ولو أن المعرفة نقشت على شيء ما نظر إليها أحد إلا مات مِن حسنها وجمالها ، لكل أحد رأس مال ، وهي رأسُ مال المؤمن .
وقال رجل لذي النون : إنّي لأحبك ، فقال : إن كنتَ عرفتَ الله فحسبك الله ، وإن لم تعرفه فاطلب مَن يعرفه حتى يدلك عليه .
وعندي أن المعرفة كشجرة يغرسها ملكٌ في بستانه ، ثمينةٍ جواهرها ، مثمرةٍ أغصانها ، حلوةٍ ثمارها ، طريفةٍ أوراقها ، رفيعةٍ فروعها ، نقية أرضها ، عذب ماؤها ، طيّب ريحها . صاحبها مشفقٌ عليها لعزّتها ، مسرورٌ بحسن زهرتها ، يدفع عنها الآفات ، ويمنع عنها البليّات ، وكذلك شجرةُ المعرفة التي يغرسها الله تعالى في بستان قلب عبده المؤمن ، فإنه يتعهّدُها بكرمه ، ويرسل عليها كل ساعة سحائبَ المِنّةِ من خزائن الرحمة ، فيُمطر عليها قطراتِ الكرامة ، برعد القُدرة ، وبرق المشيئة ، ليطهِّرها من غُبارِ رؤية العبوديةِ ، ثم يُرسِل عليها نسيمَ لطائف الرأفة ، مِن حُجُبِ العناية ، ليتمّ لها شرف الولاية بالصّيانة والوقاية ، فالعارف أبداً يطوفُ بسِرّه تحت ظلالها ، ويشمُّ من رياحينها ، ويقطع منها بِمنْجل الأدب ما فسد من ثمارها ، وحلَّ فيها من الخبث والآفة ، فإذا طال مقام سِرّ العارفِ تحتها ، ودام جولانه حولها ، هاج أن يتلذذ بثمارِها ، فيمدّ إليها يد الصفاء ، ويجتبي ثمارَها بأناملَ الحُرمةِ ، ثم يأكلها بفم الاشتياق ، حتى تغلبه نارُ الاستغراق ، فيضرب يدَ الانبساط إلى بحر الوداد ، ويشرب منه شربةً يسكر بها عن كل ما سوى الحقّ سكرةً لا يُفيق منها إلا عند المعاينة ، ثم يطير بجناح الهِمّة ، إلى ما لا تدركه أوهام الخلائق .
وقيل للواسطي : أي الطعام أشهى ؟ قال: لُقمةٌ مِن ذِكر الله تعالى ، تُرفَعُ بيد اليقين ، من مائدة الخُلْدِ ، عند حُسن الظّن بالله تعالى .

قال النساج (1): يخرجُ أكثر أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا طيباتها المقصودة ، قيل: وما هي ؟ قال: سرورُ المعرفة ، وحلاوةُ المِنّة ، ولذائذُ القُربة ، وأنسُ المحبّة .
وقال محمد بن واسع : حُقَّ لمن أعزّه الله بمعرفته أنْ لا يُذِلّ نفسه لغيره ، وحُقَّ لِمَنْ والاه الله بولايته أن يقوم بحقه ، وحُقَّ لمن أكرمه الله بصحبته أن لا يميل إلى غيره، ولا يعمل بهوى نفسه .
وقال أبو يزيد: إن في الليل شراباً لقلوب العارفين ، تطيرُ به قلوبهم حبّاً لله وشوقاً إليه، ألا إنّ الناظرين إليه لا إلى غيره ذهبوا بصفوةِ الدنيا والآخرة .
أقول: وهذا الشراب هو التحيُّر ، وهو على ضربين : تحير وَحشة وتحير دَهشة ، فتحيُّرُ الوحْشةْ للمطرودين ، وتحيُّرُ الدهشةِ للعارفين المشتاقين ، يا دليل المتحيرين زدني تحيُّراً.

الحديث الثالث
[ الإسلام والإيمان]

أخبرنا العبد الصالح الثقة الشيخ أبو محمد بن عبدالله بن الحسين بن أحمد بن جعفر الآمديُّ الواسطيّ ، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن كاتب الوقف بواسط ، قال: أنبأنا أبوالحسن محمد بن علي الرواسي إملاءً بجامع واسط ، قال: أنبأنا أبو القاسم عبيدالله بن تميم ، قال: أنبانا أحمد بن إبراهيم الإمام ، قال: أنبأنا علي بن حرب بن زيد بن الحباب ، قال: أنبأنا علي بن مَسْعدة الباهلي ، قال: أنبأنا قُتادة ، أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام علانيةٌ والإيمانُ في القلب والتقوى ها هُنا" ، يقولها ثلاثاً ويشير بيده إلى صدره صلى الله عليه وسلم (1)، والتقوى التي تقرُّ في القلب ، فتُحْكِم فيه الإيمان ، هي روح المعرفة .
أي سادة ، إن الله تعالى جعل لكل شيء قَدْراً ، ولكل قَدْرٍ حدّاً ، ولكل حد سبباً ، ولكل سبب أجلاً ، ولكل أجل كتاباً ، ولكل كتاب أمراً ، ولكل أمر معنى ، ولكل معنى صدقاً ، ولكل صدق حقا ، ولكل حق حقيقة ، ولكل حقيقة أهلاً ، ولكل أهل علامة ، فبالعلامة يُعْرَفُ المحقّ من المُبطل ، وكل قلب أقعده على بساط تحقيقِ المعرفة ، وقع بسيماء المعرفة على وجهه ، ويظهر أثرها في حركاته وأفعاله


وأقواله ، كما قال الله تعالى: (تَعْرِفُهُم بِسِيماهمْ)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أسرَّ سريرة ألبسه الله رداءها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر"(2).
وقيل ليحيى بن معاذ : ما بال العارفين أحسن وجوهاً ، وأكثر هيبةً مِنْ غيرهم ؟ فقال: لأنهم خلوا بالله مستأنسين ، وقربوا إلى الله متوجهين ، وفزعوا إليه متوالهين فكساهم الله بنور معرفته ، فيه ينطقون ، وله يعملون ، ومنه يطلبون ، وإليه يرغبون ، أولئك خواصّ الله السابقون ، سعيهم في طاعة الله من غير علاقة ، وينصحون العامة من غير طمع ، مشتاقون منيبون إلى الله تعالى ، قلوبُهم له وجِلة ، نفوسُهم وحشية وقلوبهم عَرْشية ، وعقولهم مغشيّة ، وأرواحهم ياسينية ، كلهم معصومٌ بلقبه عن فتنة الناس ، وذِكرُ الله يحميه من شر الوسواس ، صدره مشروح ، وجسمه مطروح ، وقلبه مجروح ، وباب الملكوت له مفتوح ، قلبُه مثل القنديل ، وجوارحه خاضعة كالمنديل ، لسانه مشغولٌ بتلاوة القرآن ، ولونه مُصفَرٌّ من خوف الهجران ، ونفسه ذائبةٌ في خدمة الرحمن ، وقلبه زاهرٌ بنور الإيمان ، نفسُه مشغولةٌ بالطلب ، وروحُهُ مشغولةٌ بقُرب الرب ، على لسانه وصف الربوبية ، وعلى أركانه خدمةُ الديمومية ، وعلى نفسه أثرُ العبودية ، وفي قلبه هيبة الفردانية ، وفي سِرِّه الطربُ بالألوهية ، وفي روحه شغف الوجدانية ، أفواهُهُم إليه ضاحكة ، وأعينهم نحْوَه طامحة ، وقلوبُهم به متعلقة ، وهمومُهم إليه واصلة ، وأسرارُهم إليه ناظرة ، رَمَوْا ذنوبهم في بحر التوبة ، وطرحوا طاعاتهم في بحر المِنّة ، وضمائرهم في بحر العظم ، ومرادهم في بحر الصفو ، وهممهم في بحر المحبة ، في ميدان خدمته يتقلّبون ، وتحت ظلال كرمه


يتنفسون ، وفي رياض رحمته يرتَعُون ومن رياحين امتنانه يشمّون . ينظرون إلى الدنيا بعين الاعتبار ، وإلى الآخرة بعين الانتظار ، وإلى أنفسهم بعين الاحتقار ، وإلى طاعتهم بعين الاعتذار لا الاستكثار ، وإلى الغفران بعين الافتقار ، وإلى المعرفة بعين الاستبشار ، وإلى المعروف سبحانه بعين الافتخار . يرمون أنفسهم إلى البلوى ، وأرواحهم إلى العقبى ، وقلوبهم إلى النجوى ، وأسرارهم إلى المولى. أنفسهم تاركةٌ للدنيا ، وأرواحهم للعقبى ، وقلوبهم مستأنسة بالذكرى ، وأسرارهم بحب المولى . قلوبهم معدن التعظيم والهيبة ، وألسنتهم معادن الحمد والمِدْحة ، وأرواحهم مواطن الشوق والمحبة ، وأنفسهم مقهورة تحت سلطان العقل والفطنة ، وأكثر همتهم التفكير والعبرة ، وأكثر كلامهم الثناء والمِدْحة . عملهم الطاعة والخدمة ، ونظرهم إلى لطائف صنع رب العِزّة . أحدهم تراه مُصْفرّاً من خوف فراقه ، ذائبَ الأطراف من هيبة جلاله ، طويل الانتظار شوقاً إلى لقائه ، سلك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ورمى الدنيا خلف القفا ، وأذاق الهوى طعم الجفا ، وقام على قدم صدق الوفا ، حاله في الدنيا غريب ، وقلبه في صدره غريب ، وسرُّه في نفسه غريب ، فلا يستريح من غَمّ الغُرْبة ووَحْشَتها ، ما لم يصل إلى الحبيب ، فأمره عجيب ، والمولى له طبيب ، وكلامه وجدانيّ ، وقلبه فردانيّ ، وعقله ربّاني ، وهمه صمَداني ، وعيشُه روحاني ، وعمله نوراني ، وحديثه سماوي . جعل الله قلبه موضع سره وموطن نظره ، وزيّنه بحُلِيّ ربوبيته ، وأدخله دار الإمارة من سلطانه ، يدور بالفؤاد حول عزّته ، ويرتع في روضات قُدْسه ، ويطير بجناح المعرفة في سرادقات غيبه ، ويجول في ميادين قدرته ، وحُجُبِ جبروته ، لو رآه الجاهل بشأنه مات فزعاً بعد معرفته له من ساعته . علامَتُه في الدنيا أن يكون البلاءُ عنده عسلاً ، والأحزان رطباً . وفي الآخرة كل واحد يقول : نفسي نفسي ، وهو يقول : ربّي ربّي ، مُرادي مرادي . العارف علامته أربعة : حبُّهُ الجليلَ ، وتركه الكثيرَ والقليل ، واتّباعُه التنزيل ، وخوفه من التحويل . العابدُ ذو نَصَب ، والخائف ذو هَرب ، والمحب ذو شَغَب ، والعارف ذو طرب .

الحديث الرابع
[ ذو الوجهين]

أخبرنا شيخنا الولي التقي الثقة المُقْري القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي بمدرسته في واسط ، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد ، قال: أنبأنا علي أبو طاهر الحسن بن الوزير أبي القاسم علي بن صدقة بن علي ، قال: أنبأنا أبو المطهَّر سعد بن عبدالله الأصبهاني ، قال: أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد الحافظ ، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن جعفر بن فارس ، قال: أنبأنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ، قال: أنبأنا أبو داود الحضري ، قال: أنبأنا ابن الربيع عن نعيم بن حنظلة ، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذو الوجهين في الدنيا ذو لسانين في النار"(1) ولهذا صرف العارفون وجوههم إلى الله تعالى فلن ترى للعارف وجهين أصلاً ومن هذا السر أُمروا بعدم الجمع بين أستاذين ، وقالوا: إذا وُجد الأكمل الأفضل في طريق الله تعالى ، الأصح اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى المريد أن يتمسك به ، بل على كل مَنْ كان يزعم المشيخة أن يلتحق به هو وأولاده في الطريق، وهذا ضربٌ من أعظم أضراب المعرفة بالله.


أي سادة ، اعلموا أن العارفين على أصناف مختلفة ، ومناهج متفاوتة ، ومراتبَ متلوّنة ، وأنواعٍ متفرقة ، ومنازلَ متنوعة ، فمنهم مَنْ عرف الله بالقَدْرِ فخافه ، ومنهم من عرفه بالفضل فأحسن الظن به ، ومنهم مَنْ عرفه بالمراقبة فاعتقد الصدق ، ومنهم من عرفه بالعظمة فاعتقد الخشية ، ومنهم مَنْ عرفه بالكفاية فاعتقد الافتقار إليه ، ومنهم من عرفه بالفرادنية فاعتقد الصَّفوة ، ومنهم مَنْ عرفه به فاعتقد الوصلة ، فوُجِدَ أن الخوف على قدر عرفان القدرة ، ووُجْدان حسن الظن على قدر عِرْفان العظمة ، ووجدان الافتقار على قدر عرفان الكفاية ، ووجدان الصَّفوة على قدر عرفان الفردانية ، ووجدان الوصلة على قدر عرفان الربِّ تعالى ، وكذلك أهل السموات في العبادة على مقامات ، فمقام بعضهم الحياءُ والحُرْمة ، ومقام بعضهم القُرْبةُ والمُؤَانسة ، ومقام بعضهم رؤيةُ المِنَّة ، ومقام بعضهم المراقبة ، ومقام بعضهم الهيبة ، كما قال الله تعالى: ( وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم)(1)، فأهل المعرفة عامَّتُهم يعرفونه على سبيل الخبر في التوحيد عن الصادق الأمين ، سيدنا وسيد العالمين محمد صلى اللهُ عليه وسلم ، فصدَّقوه بقلوبهم وعملوا بأبدانهم ، إلا أنهم دنَّسوا أنفسهم بالذنوب والمعاصي ، فعاشوا في الدنيا على الجهل والتقصير ، فهم على خطرٍ عظيم ، إلا أن يرحمَهم أرحمُ الراحمين ، وأناسٌ فوقهم يعرفونه بالدلائل ، وهم أهل النظر والعَقْل والفِكْر ، أيقنوا بالتوحيد من قِبَلِ الدلائل والآثار وآيات الربوبية ، استدلوا بالشاهد على الغائب ، واستيقنوا صحّة الدلالة ، فهم على طريق حسن ، إلا أنّهم عاشوا محجوبين عن الله تعالى برؤية دلائلهم ، وخواصُّ أهل المعرفة من أولي اليقين ، عرفوه به سبحانه ، فوقفوا متمكِّنين مع معرفتهم ، لا تَخْطَفُهم الأدلّة ، ولا تصرفهم العِلّة ، دليلهم رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ، وإمامُهم القرآن ، ونورهم يسعى بين أيديهم ، فمن عرفه تعالى بالخبر ، كمَثَلِ إخوة يوسف ، إذ عرفوا لونه وغفلوا عنه حتى افتضحوا بين


يديه ، حيث: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل)(1) ومن عرفه بالدلائل كمَثَلِ يعقوب ، إذ عرف أن يوسف يُعَدُّ في الأحياء فازداد حُزناً وبكاء ، واحتمل ما احتمل من أنواع البلاء ، حتى ابيضَّت عيناه من الحزن عِلْماً منه بحياته ، وشوقاً إلى لقائه ، حتى قال: (اذهبوا فتحسَّسُوا من يوسف)، وقال: (إنّي لأجد ريحَ يوسف) ، حتى قال مَنْ غفل عنه : (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي ضلالِكَ القديم)(2) وقالوا: (تفتؤُا تذكُرُ يوسُفَ)(3) الآية ، ومَثَلُ مَنْ عرفه به ، كبنيامين (4) حين أخذه يوسف لنفسه ، فقال: يا أخي أمشاهدتي تريد أم الرجوع إلى أبيك؟ قال: بل مشاهدتك أريد ، قال: فإن أردتني فاصبر على مِحْنتي ، قال: نعم أحتمل لأجلك كل بلوى ، أليس أني أبقى معك ولا أفارقك ، ثم أخرج الصاعَ من وعائه ، ونسبه إلى السَّرِقة، حتى عابه أهلُ مصر على ذلك ولاموه ، وشتمه إخوته ، وهو في ذلك كلِّه مسرورٌ ضاحكٌ في سِرِّه ، ولم يَخَفْ من لومة اللائمين ، فهذا مَثَلُ مَنْ عرفه من أهل اليقين .
وقال شيخ الطائفة الإمام الحسن البصري(5) رضي الله عنه: أهل المعرفة في الدنيا على ثلاث منازل ، رجل لقي العبادة فعانقها وخلط بها لحمَه ودمَه ، وفزع إليها قلبُه ، وعًلِمَ أن الله تعالى رازقُه وكافيه ، فوثِقَ بوعده فلم يشغل نفسه بشيء من

أمور الدنيا ، جعل السماء سقفه ، والأرضَ بساطه ، ولا يبالي على يُسرٍ أصبح أم على عُسر ، أمسى يعبد الله تعالى حتى يأتيَه اليقين ، فهذا الضرب في الدنيا أعز من الكبريت الأحمر . ورجل آخر لم يصبر كما صبر الأول ، فطلب كِسْرَةً من حِلِّها(1)، يقيم بها صُلْبَهُ ، وخِرْقة يواري بها عورته ، وبيتاً يسكنه ، وزوجة يستعفُّ بها ، وهو مع ذلك شديد الخوف عظيم الرجاء ، فهو على طريق حسن وأما الثالث فإنه لا يصدق الله بقوله ، فيبني القصرَ المشيد ، ويركب المركب الفَرِهَ(2)، ويستخدم الخدم ، فليس له في الآخرة من خَلاق(3)، إلا من يرحمه أرحم الراحمين.
رأيت في بعض الأخبار: أن عيسى بن مريم عليه السلام مرَّ بنفر من الناس ، قد نحلت أبدانهم ، وتغيرت ألوانهم ، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النار ، فقال: حق على الله أن يُؤَمِّنَ(4) الخائف ، ثم بلغ إلى نفر آخر ، فإذا أبدانهم أشد نحولاً ، وألوانهم أشد تغيراً ، فقال: ما الذي بلغ بكم ؟ قالوا: الشوق إلى الجِنان ، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ، ثم مر حتى بلغ نفراً ثالثاً فإذا أبدانهم أشد نحولاً وألوانهم أشد تغيراً ، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الحب لله والشوق إليه ، فقال لهم عيسى عليه السلام : أنتم المقرَّبون ، ثلاث مرات ، فأهل المعرفة ثلاث أصناف ، صنف يمشون على قدم الافتقار والاضطرار ، وصنف يمشون على قدم الاعتبار والانكسار ، وصنف يمشون على قدم الافتخار والاستبشار ، قال الله تعالى: (فمنهم ظالمٌ لنفسه) (5).


والناسُ في مشهد المعرفة على مرتبتين ، إما في يقظة المعرفة فهم في تربية الولاية فينظرون الكرامة ، وإما في نوم الفضلة فهم في تربية العداوة ، فهم ينظرون الأمانة ، إلا أن يرحمهم أرحم الراحمين . فسبحان مَنْ خَصَّ مِنْ عبيده مَنْ شاء وأعطاهم ثم دعاهم إلى نفسه بفضله حيث قال: (وأنيبوا إلى ربكم)(1)، فأجابوه وأنابوا إليه ، فهم على أصنافٍ شتى ، فالتائبون يمشون برِجْل الندامة على قدم الحياء ، والزاهدون يمشون برجل التوكل على قدم الرضا ، والخائفون يمشون برجل الهيبة على قدم الوفاء ، والمحبون يمشون برجل الشوق على قدم الصفاء ، والعارفون يمشون برجل المشاهدة على قدم الفناء ، فالمعرفة طعامٌ أطعمه الله مَنْ شاء من عباده ، فمنهم مَنْ يذوقه ذوقاً ، ومنهم مَن يأكل منه بلاغاً ، ومنهم مَن يأكل منه كَفافاً ، ومنهم مَن يأكل شِبَعاً ، والناس في المعرفة على منازل ، فمنهم من يكون منزله كشِعْب ، ومنهم مَن يكون كقرية ، ومنهم من يكون كمِصْر ، ومنهم من يكون منزله منها كالدنيا والآخرة . رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أخرجوا مِن النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه حبة خردل من الإيمان"(2)

وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه(1)، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وما ذلك إلا حقيقة المعرفة ، فيقول لهم الرب تعالى: أنتم عبيدي حقاً ، فقد طال شوقكم إليّ ، وشوقي إليكم ، السلام عليكم عبيدي ، فها أنا حبيبكم ، فبعزتي ما خلقتُ الجنة إلا من أجلكم ، فلكم اليوم ما شئتم .
وحُكي أن مالك بن دينار(2) وثابتاً البناني(3) رحمهما الله ، دخلا على رابعة البصرية(4) فقالت لمالك: أخبرني لم تعبد ربك؟ قال: شوقاً إلى الجنان ، فقالت لثابت : وأنت يا غلام؟ فقال: خوفاً من النيران ، فقالت: أنت يا مالك مثل أجير السوء لا يعمل إلا طمعاً ، وأنت يا ثابت مثل عبد السوء ، تعمل خوفاً من الضرب ، فقالا: وأنتِ يا رابعة ، فقالت: حباً لله تعالى ، وشوقاً إليه.
وحُكيَ أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان يعظ الناس ذات يوم وهم
يبكون، وفيهم شابٌّ يضحك ، فقال له: ما لك يا فتى؟ فقال ينشد ويقول:
كلُّهم يعبدون من خوف نارٍ ... ويرون النجاة حظاً جزيلا
أو بأن يسكنوا الجنان فيُضحوا ... في رياضٍ عيونها سلسبيلا
ليس في الخلد والجِنان هوائي ... أنا لا أبتغي بحبّي بديلا


الحديث الخامس
[ انصرْ أخاك]

أخبرنا شيخنا الصالح الثقة العارف بالله القاضي أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه ، قال: أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عبدالباقي بن محمد البزاز، قال : أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ، قال : أنبأنا أبو محمد بن عبدالله بن محمد البزاز ، قال: أنبأنا أبو مسلم إبراهيم بن عبدالله بن مسلم البصري ، قال: أنبأنا أبو عبدالله الأنصاري ، قال: حدثنا حميد عن أنس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : "انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً ، قال: أنصُرُهُ مظلوماً فكيف أنصره ظالما ً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرُكَ إياه"(1) أقول : هذا بشأن أخيك ، فكيف بك بشأنك ، أخيفوا نفوسَكم وامنعوها وازجروها.
أي سادة ، للعارف أربع أجنحة ، الخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والشوق ، فلا هو بجناح الخوف فيستريح من الهرب ، ولا بجناح الرجاء فيستريح من الطلب ، ولا بجناح المحبة فيستريح من الطرب ، ولا بجناح الشوق فيستريح من الشغب ، والله تعالى بيَّنَ في كتابه نعْتَهم بقوله : (ترى أعيُنَهم تفيض من الدمعِ مما عرفوا من الحق)(2)، وقوله تعالى : (لا تلهيهم تجارة)(3) الآية ، وذلك لأن عمل العارف خالصٌ للمولى ، وقوله مستأنس بالذكرى ، ونفسه صابرة في البلوى ، وسرّه دائم النجوى ، وفكره بالأفق الأعلى ، فمرَّةً يتفكر في نعم ربه ، ومرَّةً يجول حول سرادقات قدسه ، فحينئذٍ يصير حُرّاً عبدا ً، وعبدا حُرّاً ، وغنياً فقيرا ، وفقيراً غنياً ، هكذا يعدُّ ما أمكنه طَرداً وعكساً من الألفاظ ، مثل الموجود والمعروف ، والعزيز والمسرور ، والقريب والمحمود ، والناطق والساكت ، والمقبول والخائف ، والشاهد والغائب ، والباكي والضاحك ، وذلك لأن ضحكه وسروره في حزنه ، وحزنه في سروره ، وعِزُّه مختلطٌ بذُلِّه ، وذُلّه مختلطٌ بعِزِّه ، وخوفه ممزوجٌ برجائه ، ورجاؤه ممزوجٌ بخوفه ، لا خوف يذهب برجائه ، ولا رجاء يذهب بخوفه ، وهو بنفسه يعيشُ مع الناس ، وبقلبه مع الله تعالى ، لا تغلب معاملةُ نفسه مع الناس معاملةَ قلبه مع الله تعالى ، عزيزٌ ذليل ، فقيرٌ غنيّ ، كما قال أبو يزيد رضي الله عنه في مناجاته : إلهي،
كلّما قلتُ قد دنا حَلُّ قَيدي قَيَّدوني وأوثقوا المِسْمــارا
وكان يسيلُ الدمعُ من عينيه عند هذه الكلمة ، وليس كل مَنْ يُرى عليه أثر الزهد فهو زاهد ، وكذلك أثرُ الرغبة والحماقة والجنون والبطالة والغفلة.
إن الله تعالى كلما نظر إلى قلب عبد من عبيده بالفضل والرحمة كشف عنه حجاب الغفلة ، وأظهر له لطائف القدرة ، فعند ذلك لابد له من إحدى ثلاث ، إما أن يصير حكيماً يتصل به الخلق إلى الله ، وإما أن يكلَّ لسانه فيصير مدهوشاً مبهوتاً ، وإما أن يصير مستوراً في حُجُبِه ، محفوظاً في قبضته ، حتى لا يراه غيره لشدة غيرته عليه ، فسبحان من حجب أهل معرفته عن جميع خلقه ، حجبهم عن أبناء الدنيا بأستار الآخرة ، وعن أبناء الآخرة بأستار الدنيا ، وذلك أن أهل المعرفة عرائس الله تعالى في أرضه ، والله مَحْرَمُهُم، لا مَحْرَمَ لهم غيره ، فهم عند الله مخدورون.
وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود أوليائي في قباب لا يعرفهم إلا أوليائي ، فطوبى لأوليائي ، ثم طوبى لأحبائي ، يقال: لو بدت ذَرَّةٌ من نور النبي عليه الصلاة والسلام لاحترق ما بين العرش إلى الثرى.

قيل لرابعة : ما كمال حال العارف ؟ قالت: احتراقُهُ بحبه لربه ، وعلامته أن يكون مستغنياً بالمُعطي عن العطاء ، وبالمكوِّنِ عن الكون ، مستغرقاً في بحار سرور وِجْدانِه ، ساكناً بقلبه معه ، مع ترك كل اختيار لنفسه ، ولا يجزع عند الشدائد والبلوى لرؤيته ، ويعلم أن الله تعالى أقرب إليه من كل شيء ، وأرحم عليه من كل أحد ، وأعزُّ وأكبرُ من كل شيء ،
وأن لكل شيء خلفاً ما خلا الله تعالى.
لكلِّ شيءٍ عدمتُهُ خَلَفْ وما لفقْدِ الحبيبِ مِنْ خَلَفْ
وإنما يُعرف العارف ، إذا ميّز الخواطر النفسية من الخواطر الروحية ، والإرادة الدنيوية من الأُخْرَوِيّة ، والهمم العُلْوية من السُّفْلية ، فمن رُزِقَ التوفيق إلى حفظ حدود صدق وفاء العبودية ، والقيام بشروطها ، ووجد السبيلَ إلى طريق حفظ تحقيقها ، ثم قام بذكره ، وذَكَرَ ذِكْرَه ، ثم شكره ، وشَكَرَ شُكْرَهُ ، فيصيرُ مع النفسِ بلا نفس ، ومع الروح بلا روح ، ومع الخَلْقِ بلا خلق.
كما قال الإمام ابن عباس رضي الله عنهما : بلغنا أن عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام بينما كانا يسيران في بعض الطُرُق ، فصدم يحيى امرأة ، فقال له عيسى: يا بن خالتي ، لقد أصبت اليوم ذنباً عظيماً ، قال: ما هو؟ قال: امرأة صدمتَها ، قال يحيى: والله ما شعرتُ بها ، فقال عيسى: سبحان الله نفسُك معي ، فأين قلبُك وروحك ؟ فقال : عند الله ، يا عيسى لو سكن قلبي إلى جبريل ، أو إلى أحد غير الله طرفةَ عين ، لظننتُ أنّي ما عرفتُ الله حقَّ معرفته.
وقيل: المعرفةُ خمسة أحرف ، فمن وجد في نفسه معناها فليعلم أنه من أهلها ، بالميم مَلَكَ نفسَه ، وبالعين عَبَدَالله على صِدْق الوفاء ، وبالراء رغب إلى الله بالكُلّية ، وبالفاء فوّض أمره إلى الله ، وبالهاء هرب من كل ما دون الله إلى الله ، فكل عارف يملك نفسه بقدر معرفته بكبريائه تعالى وعظمته ، ويعبدُ ربه على قدْر معرفته بربوبيته ، ويرغب إليه على قدر معرفته بفضله وامتنانه ، ويفوِّض أمره إليه على قدر معرفته بقدرته ، ويهرب إليه على قدر معرفته بملكه وسلطانه ، فهو عارف.


الحديث السادس
[ استجابة الدعوة]

حدثنا الشريف محمد بن عبدالسميع العباسي الهاشمي الواسطي ، قال: أخبرنا الحاجب أبو شجاع محمد بن الحسين ، قال: أنبأنا النقيب أبو الفوارس طراد بن محمد ابن علي الزبيبي الهاشمي ، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن يحيى بن عبدالجبار السكري ، قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، قال: أنبأنا أبوبكر أحمد ابن منصور الرمادي ، قال أنبأنا عبدالرزاق بن همام ، قال: أنبأنا مَعْمَرٌ عن الزهري عن رجل سمّاه(1)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُستجابُ لأحدكم ما لم يَعْجَلْ فيقول دعوتُ فلم يُستجب لي"(2) والعَجَلَةُ هنا من غَلَبَةِ الإشتغال بالقَصْدِ دون خالقه ، وهذا من نُقصان المعرفة ، فإن العارف لا يشغله شيء عن ربه.
وسنذكر من أحوال العارفين أشياء بقصد التبرك بِذِكْرِهِم ، قال الله تعالى : (واذكر في الكتابِ إبراهيم)(3) وقال سبحانه: [ نحن نقص عليك] (4)
وفي الخبر: اذكروا الصالحين ، عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة(5). فلولا ذلك لما كان ينبغي لنا أن نشتغل بذكر غير الله تعالى ، ومع ذلك فإن الله تعالى معنا ، قال تعالى:


( وهو معكم أين ما كنتم)(1)
حُكِيَ أن عبدالواحد بن زيد(2) رحمه الله قال: قصدتُ بيتَ المقدس فأضلَلْتُ طريقي ، فإذا بامرأة أقبلت إليَّ فقلتُ لها: يا غريبة ، أنت ضالَّة؟ قالت: كيف يكون غريباً مَنْ يعرفه ، وكيف يكون ضالاً من يُحِبُّهُ ، ثم قالت: خذ رأس عصاي وتقدَّم بين يديَّ مشيا ً، فأخذتُ رأسَ عصاها ، ومشيت بين يديها سبعة أقدام أقل أو أكثر، فإذا أنا في مسجد بيت المقدس ، فدلَّكتُ عيني ، قلت: لعل هذا غلط مني ، فقالت: يا هذا سيرك سير الزاهدين ، وسيري سير العارفين ، فالزاهد يسير ، والعارفُ يطير ، وأنَّى يلحق السَّيَّارُ الطَّيَّارَ؟ ثم غابت فلم أرها بعدها.
قال أبو عمران الواسطي رحمه الله: كنت راكباً البحرَ ، إذ انكسرت


السفينة ، وبقيتُ أنا وامرأتي ، فولدت ولداً ، فأرادت الماء ، فرفعتُ رأسي إلى السماء ، فإذا رجلٌ جالسٌ على الهواء ، وفي يده ركوة من ياقوتةٍ حمراء في سلسلة من ذهب ، وقال :خذْ ، فسألته عن ذلك ، فقال: تركتُ هواي ، فأجلسني في الهواء.
وحُكِيَ أن عبدالواحد بن يزيد قال: لأبي عاصم الربعي: كيف صنعتَ حين طلبك الحَجَّاج ؟ قال: كنت في بيتي فوقفوا على الباب ليدخل عليَّ الرسولُ فصرتُ مدهوشاً ، فإذا بيدٍ أخذت بيدي وجرَّتني قدَماً أو أكثر ، فنظرتُ فإذا أنا علي جبلِ أبي قبيس.
وحُكِيَ أن إبراهيم بن أدهم(1) رضي الله عنه قال: مررتُ براعٍ فقلت له: هل عندك شُربةً من الماء أو من اللبن؟ قال: أيُّهما أحبُّ إليك؟ قلت: الماء ، قال: فضرب بعصاه حجراً صَلداً لا صدْعَ فيه ، فانبجس من الماء ، فشربتُ منه وهو أبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، وبقيتُ متعجباً ، فقال الراعي: لا تتعجب فإن العبد إذا أطاع الله أطاعه كلُّ شيء.
وكانت لرابعة البصرية(2) سَلَّةٌ معلقة في بيتها ، فكلما أرادت الطعام ، ضربت بيدها إلى السلة فوجدتْ فيها أي الطعام شاءت.
وقال شيخ الطائفة الحسن(3)رضي الله عنه: خرج سلمانُ الفارسي )رضي الله عنه من المدائن ومعه ضيف، فإذا بظباءٍ تسير في الصحراء، وطيور تطير في الهواء، فقال سلمان: ليأتني ظبيٌ وطيرٌ سمينان، فقد جاءني ضيفٌ أحب إكرامه، فجاء كلاهما، فقال الرجل سبحان الذي سخَّر لك الطيرَ في الهواء، قال: أوَ تتعجبُ من هذا؟ هل رأيتَ عبداً أطاع الله فعصاه الله.


قال عبد الواحد بن زيد: بينما أنا وأيوب السختياني(1) نسير في طريق الشام، فإذا نحن بأسودَ أقبل إلينا يحمل كارة حطب، فقلت: يا أسودُ مَن ربُك؟ قال: ألمثلي تقول هذا، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: إلهي حوِّل هذا الحطب ذهباً، فإذا هو ذهب ، ثم قال: أرأيتم هذا؟ قلنا: نعم، قال: اللهم رُدَّه حطباً، فصار كما كان أولاً، ثم قال: سَلُوا فإن العارفين لا تفنى عجائبهم، فقال أيوب: بقيتُ خَجِلاً من العبد، واستحييتُ منه حياءً ما استحييت مثله من قبل ذلك من أحد قط، ثم قلت: أمَعَكَ شيءٌ من الطعام؟ قال: فأشار فإذا بين أيدينا جامٌ(2) فيها عسل، أشد بياضاً من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، قال: كلوا فوالله الذي لا إله إلا هو ليس هذا من بطن النحل، فأكلنا فما رأينا شيئاً أحلى منه، فتعجَّبنا، فقال: ليس بعارفٍ من تعجّب من الآيات، ومن تعجب فهو بعيد من الله، ومن عبده على رؤية الآيات فهو جاهل بالله.
رحم الله ذلك الأسودَ، ما أعرفَه بالله. وقد كنتُ حاجاً وأردتُ التلبية، فأخذت منديلاً لي فغسلته، وقطعته نصفين، ثم اتزرت بنصف، وارتديت بنصف آخر لحاجة، فإذا بهاتف يهتف: انظر ما بين يديك، فنظرتُ فإذا الباديةُ فضةٌ كلُّها، فغمضتُ عيني ومضيت، وقلت: اللهم إني أعوذ بك من كل إرادةٍ سواك.
وحكي أن رجلاً من العارفين فرغ من أعمال الحج وأركانه، ثم أخذ يُحرم مرة أخرى، وقال: لبيك اللهم لبيك، فقيل له: يا هذا، إن وقت الحج والتلبية قد مضى، فقال: قد أحرمتُ من الوطن إلى زيارة البيت، والآن أحرمت من البيت إلى صاحب البيت، فقيل هنيئاً لمن أحرم عن غيره.

وحُكي أن هرم بن حيّان(1) رحمه الله قال: كنتُ أسيرُ على شاطئ الدجلة فإذا أنا برجُلٍ أقبل إليّ وعليه سيما العارفين، فسلمت عليه فقلت له: كيف حالك وشأنك؟ فقال: (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا)(2) يا هرم بن حيّان اشتغلْ بما يعنيك، فقلت: رحمك الله مِن أينَ عرفتَ اسمي واسمَ أبي، وما رأيتك قبل اليوم؟ فقال: أما عرفتَ أنَّ العارفين يتعارف بعضُهم بعضاً بنور المعرفة، قال: فتعجبتُ من حسن فصاحته، وتحيَّرتُ من هيبته.
وقال ذو النون رضي الله عنه: بينما أنا أسير فإذا أنا بقريةٍ والناسُ يصيحون، فدنوتُ فإذا أسودُ يسخرون به، فرفع رأسه إليّ وقال: يا ذا النون اعرف قدرَ الله، ولا تمُنَّ على الله، فإن الحبيبَ لا يمُنُّ على الحبيب، فسألتُ عن حاله، قيل إنه مجنون لا يجالس الناس، ولا يأكلُ في أربعين يوماً إلا أكلةً واحدة، ثم نظر إلى السماء وقال: يا غايةَ هِمَم العارفين، إن عرفتُكَ فبمواهبك، وإن شكرتك فبعصمتك.
وقال ذو النون أيضاً: بينما أنا أسيرُ على شاطئ النيل فإذا أنا بجارية منطلقة في النيل، وقد اضطربت أمواجه، وتقول: إلهي ترى ما تفعل بي، فقلت: يا جارية أتشكِينَ منه وهو صاحب كل بَرٍّ وفاجر، فقالت: يا ذا النون أنتَ الذي إذا شكرتَ شكرتَ منه، وإذا سخطتَ سخِطتَ عليه، قلت: يا جارية، من أين عرفت اسمي وما رأيتِني؟ فقالت: عرفتك بنور معرفة الجبّار، فقلت لها: اتجدين وحشةً للوَحدة؟ قالت: لا والذي نوَّر قلبي بنور معرفته، ما سكن قلبي قطّ إلى غيره ،فإنه مؤنسُ الأبرار في الخلوات، وصاحبُ الغرباء في الفلوات.
وقال جدُّ والدتي العارفُ الواسطي رحمه الله: بينما أنا أمشي في البادية، إذ أعرابيّ جالس منفرداً، فدنوت منه وسلّمتُ عليه، فردَّ عليّ السلام وأبي أن أكلِّمه، فقال: اشتغلْ بذكر الله فإن ذكرَ الله شفاءُ القلوب.

ثم قال: كيف يتفرغ ابن آدم من ذكره وخدمته، والموت في أثره، والله ناظرٌ إليه؟ ثم بكى وبكيت معه، فقلت له: ما لي أراك فريداً وحيداً؟ قال: ما أنا بوحيد والله معي، وما أنا بفريد والله مؤانسي، ثم قام ومضى مسرعاً، وهو يقول: سيدي، أكثر خلقك مشغولون عنك بغيرك، وأنت عِوَضٌ عن جميع ما فات، يا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ويا مأوى كل فريد، وجعل يمُرُّ وأنا أتبعه، ثم أقبل إلىَّ وقال: ارجعْ عافاك الله إلى من هو خير لك مني، ولا تشغلني عمن هو خير لي منك، ثم غاب عن بصري.
وحُكي أن عبدالواحد بن زيد قال: مررتُ براهبٍ فسألته: منذ كم أنت في هذا المكان؟ فقال: منذ أربع وعشرين سنة، قلت: من أنيسك؟ قال: الفرد الصمد، قلت: من المخلوقين؟ قال: الوحش، قلت، فما طعامك؟ قال: ذكر الله، قلت: مِنَ المأكول، قال: ثمار هذه الأشجار، ونبات الأرض، فقلت: أما تشتاق إلى أحد؟ قال: نعم إلى حبيبِ قلوب العارفين، قلت: إلى المخلوقين، قال: مَن كان شوقه إلى الله فكيف يشتاق إلى غيره، قلت: فلِمَ اعتزلتَ عن الخَلْق؟ قال: لأنهم سَرَّاق العقول، وقُطّاع طريق الهدى، قلت: ومتى يعرف العبد طريق الهدى؟ قال: إذا هرب إلى ربه من كل ما سواه، واشتغل بذكره عن كل مَن سواه.
قال هرم بن حيان: رأيت أويس بن عامر(1) فسلمتُ عليه، فقال: وعليك السلام يا هَرِمُ بن حيان، فقلت: كيف عرفْتَ اسمي واسم أبي؟ قال: عَرَفَت روحي روحَك بنور معرفة ربي، قلت: إني أحبك في الله، قال: ما أظن أن أحداً يحب غير الله فكيف يحب غير الله لله، قلت: أريد الصحبة معك، والأنس بك، قال: ما ظننت عارفاً يستوحش عن الله حتى يستأنس بغيره، قلت: أوصني، قال: أوصيك بالله سبحانه، فإنه عِوَضٌ عن كل ما فاتك.


وقال ذو النون المصري: كنتُ أسير في بعض المفاوز، فإذا أنا برجل مُتَّزِر بحشيش، مرتد بحشيش، فسلمتُ عليه فرد عليّ السلام، ثم قال: من أين الفتى؟ قلت: من مصر، قال: إلى أين؟ قلت: أطلب الأنس بالمولى، قال: اترك الدنيا والعُقبى، يصح لك الطلب، قلت: هذا كلامٌ صحيح، صحَّحْهُ لي، قال، أتتهمنا فيما نقول، وقد أُعطينا خيراً مما نقول، وهو المعرفة، قلت: ما أتهمك، ولكني أريد أن تزيدني نوراً على نور، فقال: يا ذا النون، انظر فوقك، فإذا السماء والأرض كأنهما ذهب يتوقد ويتلألأ، قال: اغضض بصرك، فصارتا كما كانتا، فقلت: كيف السبيل إلى هذا؟ قال: تفرَّد بالفرد إن كنت له عبداً.
وقال محمد المقدسي(1) رحمه الله: دخلتُ دار المجانين يوماً بالشام، فرأيت فيها شاباً على رقبته غُلٌ، وعلى رجليه قَيد، مشدود بالسلسلة، فلما وقع بصره عليّ، قال لي: يا محمد أترى ما فعل بي، وأشار بطرفه نحو السماء، ثم قال: جعلتك رسولاً إليه أن تقول له: لو جعلتَ السموات غلاً على عنقي، والأرضين قيداً على رجلي، ما التفتُّ منك إلى غيرك طرفة عين، ثم أنشأ يقول:
على بُعدكَ لا يصبرُ ... مَن عادته القُرْبُ
ولا يقوى على قطعِكَ ... مَن تيَّمَهُ الحُبُّ
إذا لم تَرَكَ العَينُ ... فقد أبصركَ القلبُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــ
ــــــ



عدل سابقا من قبل سيداحمدالعطارالرفاعى في الثلاثاء 17 يوليو 2012, 3:48 am عدل 3 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: تكملة حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالخميس 21 يونيو 2012, 3:47 pm



الحديث السابع
[ ثلاثة مرضيات، وثلاثة أُخرُ مكروهات]

حدثنا شيخنا المقري الإمام الصالح القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي رضي الله عنه: قال: قرأت أنا وسديد الدولة محمد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم بن عبدالقاهر بن زيد بن رفاعة الشيباني ويعرف بابن الأنباري على أبي عبدالله بن أحمد ابن عمر الحافظ قلنا: أنباك أبوالحسين أحمد بن محمد فأقر به قال: أنبأنا الحسين محمد ابن عبدالله الدقاق عن يحيى بن محمد إسحاق بن شاهين عن خالد بن عبدالله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى عز وجل يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"(1)
وفي هذا الحديث الشريف من رقائق أحكام المعرفة بالله، ما يكفي العارف عن غيره، فإن الأسرار المطلوبة فيه هي سلم المصطفَين الأخيار إلى الله تعالى.
أي سادة، إن لله تعالى عباداً اصطفاهم لمعرفته، وخصهم بمحبته، واختارهم لصحبته، واجتباهم لمؤانسته، وقرّبهم لمناجاته، وحرّضهم على ذكره، وأنطقهم


بحكمته، وأذاقهم من كأس محبته، وفضلهم على جميع خلقه حتى لم يريدوا به بدلاً، ولا سواه كفيلاً، ولا دونه ناصراً ومعيناً ووكيلاً، ولقد سبقوا مَن دونهم سَبقاً لا بكثرة الأعمال، ولكن بصحة الإرادات، وحسن اليقين، مع دقائق الورع، والانقطاع بالقلب إليه، وتصفية السر عن كل ما دون الحق، فأذاقهم الله طعم لُباب معرفته، وأنزلهم في حظيرة قدسه، لا يصبرون عن ذكره، ولا يشبعون من بِرِّه، ولا يستريحون لغيره، فيا طوبى لهم، هم الأقلون عدداً، والأعظمون خَطَراً، بهم يحفظ الله محبته، حتى يؤدوها إلى نظرائهم، فيا طوبى لهم، هم الزاهدون فيما رغب فيه الغافلون، والمستأنسون فيما استوحش منه الجاهلون، والمشتاقون إلى ما هرب عنه الساهون، هم الذين نظروا بأعين القلوب، إلى حُجُبِ الغيوب، وجالتْ أرواحُهم في الملكوت، فَهِمَّتُهُم في سِرِّهم، وسِرُّهم عند ربهم، به يستمعون، وبه ينظرون، وبه يريدون، وبه يتحركون، قلوبهم بحبها مستأنسة بأنسها.
قال أبو يزيد رحمه الله: الناس يصيحون من إبليس، وهو يصيح مني، قيل له: كيف هذا والمصطفى عليه السلام كان مأموراً بالصياح منه، في قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشيطين)(1).
قال: لأن الله تعالى أمره في هذه الآية بالاعتصام به، وتفويض الأمر إليه، وفَرْقٌ بين الصياح من إبليس، وبين الاعتصام بالله، وقد قال الله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)(2).
قال ذو النون: للعارف نار ونور، نار الخشية، ونور المعرفة، فظاهره محترق بنار الخشية، وباطنه مُنَوَّرٌ بنور المعرفة، فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه، والآخرة تضحك بِسَنِّ البقاء إليه(3)، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهراً وباطناً إلا

كالبرق الخاطف، أو كالريح العاصف(1)، فإن أتاه عارضٌ من قِبَلِ العَين، أحرقته نار العَبْرة، وإن أتاه مِن قبل النفس، أحرقته نار الخدمة، وإن أتاه من قبل العقل، أحرقته نار الفكرة، وإن أتاه من قبل القلب، أحرقته نار الشوق والمحبة، وإن أتاه من قبل السر، أحرقته نار القرب والمشاهدة، فتارةً يحترق قلبه بنار الخشية، وتارة يتشفى بنور المعرفة، فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة، هاجت ريح اللطف من سرادقات الأنس والقُربة، فيظهر صفاء الحق للعبد، فتراها تلاشت الأنانية، وبقيت الألوهية كما هو في الأزل.
قال أبو سليمان(2): يُفتح للعارف وهو نائم على فراشه، ما لا يفتح لغيره وهو في صلاته.
قال أبو يزيد رحمه الله: أدنى مقامات العارف أن يمر على الماء، ويطير في الهواء، وأعلاها أن يمر على الدارين من غير أن يلتفتَ إلى مَن سواه.
قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: دوران العارف مع محبوبه على أربعة أوجه: سرور المعرفة، وهو ممزوج برؤية حسن العناية، وحلاوة الخدمة، وهو ممزوج بذكر المِنّة، وأنس الصحبة، وهو ممزوج بلذائذ القربة، وخوف المفارقة، وهو ممزوج بتحقيق كمال القدرة، وقال ذو النون: العارف بين البر والذكر، لا اللهُ يمل من بِرِّه، ولا العارف يشبع من ذكره.
سئل بعضهم عن قوله تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى)(3)، فقال: أضحك العارفين بسرور معرفته ثم أبكاهم من خوف مفارقته، وأمات من شاء


بسيف قطيعته، أوحيى من شاء بروح وَصْلَتِه، ليعلم الخلائق أنه فعال لما يريد.
وقيل لعائشة رضي الله عنها: كيف يحاسب المؤمنون العارفون؟ فقالت: ليس مع العارفين حساب، ولكن معهم عتاب.
وروي أن سليمان عليه الصلاة والسلام نظر إلى مملكته يوماً، فأمر الله تعالى الريح حتى كشف عورته، فقال للريح، رُدَّ عليَّ ثوبي، فقال الريح، رُدَّ قلبك إلى مكانه، فطوبى لأهل المعرفة، عرفهم أنفسهم قبل أن يعرفوه، وأكرمهم قبل أن يعرفوا الكرامة، أولئك أقوام أنفسهم روحانية، وقلوبهم سماوية، وهمومهم مَرْضِيَّة، وصدورهم جَزِعة، وقلوبهم خائفة، وأعينُهم دامعة، عقلوا فعلموا، ووجدوا فرحلوا، وانفتح لهم نور القلب.
لله قومٌ مُصْطَفَونَ لنفسِهِ : إختارَهم من سالفِ الأزمانِ
اختارَهم من قبلِ فِطرةِ خَلقِهِم : فيهم ودائعُ حِكمةٍ وبيانِ



الحديث الثامن
[ الحياء من الإيمان ]

أخبرنا الشيخ صالح الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان، قال: أنبأنا أبو عبدالله مالك بن أحمد بن علي المالكي، قال: أنبأنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن موسى القرشي، قال: أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي، قال: أنبأنا أبومصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، عن مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الحياء من الإيمان" (1) والحياء الذي يشمل الوجه من الناس، أنموذج عن الحياء الذي يشمل القلب من الله تعالى، والحياء الشامل للوجه وللقلب، هو من الإيمان بالله وهو طَوْرُ العارفين بالله سبحانه وتعالى، الذي جعل قلوبهم عَيْبَةَ أسراره(2)، وكذلك فإن قلوب العارفين خزائنُ الله في أرضه، وضع فيها ودائع سره، ولطائف حكمته، ودقائق محبته، وأنوار علمه، وإمامةَ معرفته، فكلامهم هو الكشف عما يشاهد القلب، وإظهار علوم السر، وبيان معاملة الضمير، من تميّز الانفصال عن الاتصال، وبيان الأسباب الشاغلة عن الحق، من الأسباب الداعية إلى الحق، أما الداعي إلى الخلق فالدنيا والنفس والخلق، وأما الداعي إلى الحق فالعقل واليقين والمعرفة، كما ورد:
"مَنْ عرف نفسه عرف به"(1)، يعني من عرف ما لنفسه، عرف ما لربه، وكلامهم يدور على خمسة أوجه، به وله ومنه وإليه وعليه، وليس في كلامهم أنا وإني ونحن ولي وبي لأن ألفاظهم فردانية، وحركاتهم صمدانية، وأخلاقهم ربانية، وإرادتهم وحدانية، لا يعرف إشارتهم إلا مَنْ له قلب حريق، فيه خزائن الأسرار، وجواهر القدس، وسُرادِقات الأنوار، وبحار الوداد، ومفاتيح الغيب، وأودية الشوق، ورياض الأنس، فكلما أبرز العارف لسان الحكمة من ينبوع المعرفة بإشارات استأنس بها قلوب المريدين والمشتاقين.
قال يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور، ومغارفها الألسن، فكل لسانٍ يغرف لك ما في قلبه.
وقيل لأبي بكر الواسطي ما تقول في كلام أهل المعرفة؟ فقال: إن مَثَلَ المعرفة، كمثل سراج في قنديل، والقنديل معلق في بيت، فما دام السراج في البيت، يكون البيت مضيئاً، وربما يفتح الباب فيقع ضوء السراج خارج البيت ويضيء.
كلام أهل المعرفة يقع ضياؤه على قلوب أهل النور فتصير أعينهم دامعة، وألسنتهم ذاكرة. يقول الله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)(2)، الآية، مثل نفس العارف كمثل البيت، ومثل قلبه كمثل القنديل، دُهْنُهُ من اليقين، وماؤه من الصدق، وفتيله من الإخلاص، والزجاجة من الصفاء والرضاء، وعلائقه من العقل، فالخوف نار في نور، والرجاء نور في نار، والمعرفة نور في نور، فالقنديل معلق بباب الكُوَّة، إذا فتح العارف فاهُ بالحكمة التي في قلبه، هاج في كُوَّةِ فمه نورٌ من الأنوار التي في قلبه، فيقع ضياؤه على قلوب أهل النور، فيتعلق النور بالنور، وإنَّ بعض القول أشدُّ ضوءاً من النهار، وبعضها أشدّ ظلمةً من الليل، وكلام أهل المعرفة كنزٌ من كنوز الرب سبحانه، معادنه قلوبُ أهل المعرفة، أمرهم الله تعالى بالإنفاق منه على أهله في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(1).
قيل لبعض العارفين: أي شيء أضوأ من الشمس؟ قال: المعرفة، قيل: أي شيء أنفع من الماء؟ قال: كلام أهل المعرفة، قيل: وأي شيء أطيب من المسك؟ قال: وقت العارف، قيل: وما حِرفةُ العارف؟ قال: النظرُ إلى صُنع الرُّبوبية، وأعلام لطائف القُدرة.
قيل لأبي سعيد البلخي(2): لِمَ كان كلام السلف أنفعَ من كلام الخلف؟ قال: لأن مرادهم كان عِزَّ الإسلام، ونجاة النفوس، والشفقةَ على الإخوان، ورضا الرحمن، ومرادُنا عِزُّ النفس، وثناء الناس، وطلبُ التنعُّم في الدنيا، فالعبد إذا أطاع ربه، رزقه نهلةً من عين المعرفة، وأنطق بها لسانه، وإذا ترك طاعته لم يسلبها، ولكن أبقاها في قلبه، ولم يُنطق بها لسانه، ليكون ذلك حسرةً عليه، وابتلاه بأنواع المِحَن، وما مِن مؤمنَين يلتقيان فيذكران الله إلا ويزيد الله تعالى في قلوبهما نورَ المعرفة، قبل أن يتفرقا، وإن الله تعالى أطْلعَ أهلَ المعرفة على تلاطم أمواج بحار خواطر القلوب، وأشرفهم على خزائن الأسرار، وبواطن العلوم التي لا يُحصى عددها، ولا ينقطع مددها، ولا يُدرَكُ قعرها، ولا تُفنى عجائبها، حتى يغوصوا بنور المعرفة في قَعْرِ بواطن إشاراتها المكنونة في معانيها المخزونة، فيستخرجوا عجائبَ فوائد، ولطائفَ زوائد، وحقائقَ إشارات، تحترق منها قلوبُ المحبين، وتستأنس بها أرواح المريدين، وهي نورٌ من أنوار الهداية، يهتدي به العبد إلى طريق حسن الرعاية، إذا أدركه من الحق التوفيق والعناية.
قال يحيى بن معاذ: لقيتُ الحكماء فوجدت أكثرهم مفاليسَ، يفتحون من كيس غيرهم، وكان للّيث المصري(1) أخ، وكان بالإسكندرية، فلما قدم إليه قال: إني كنت مقبلاً على ربي، قال: فأين فوائدُ إقبالك على ربك؟ فسكت، فقال الليث: العبد إذا أقبل على الله بصدق الوفاء، يمده الله بفوائد لم تخطر على قلب بشر.
وكان يحيى بن معاذ يتكلم ذات يوم، فصاح رجل في مجلسه، ومزَّق ثوبه، فقيل له: ما تقول فيه؟ قال كلام أهل المعرفة كلما نبع من عين سر الوحدانية، قرع قلب المحترق بنيران الشوق والمحبة، فتلاشت عن صاحبه صفات الإنسانية، كلام المتقين بمنزلة الوحي، وجرت كلمة على لسان بعضهم، فقيل له: مَن حَدَّثك بهذا؟ قال: حدَّثني قلبي عن فكري عن سِرِّي عن ربي، فإسنادُ الحكمة وجودُها، وهي ضالّة المريد، حيثما وجدها أخذها، فلا يُبالي من أي وعاء خرجت، وبأي لسان نَطَقَت، ومن أي قلب نُقِلَت، أو على أي حائط كُتِبت، أو مِن أي كافر سُمِعَت.
وقد ورد "مَن أراد أن يؤتيه الله علماً من غير تعلم، وهُدى من غير هداية، فليزهد في الدنيا"(2)، وإن للحكمة أهلاً وزماناً، وقد مضي زمنها، والأكثرون مِن أهلها، وليس علينا إلا أثر المصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اطلبوا مصابيحَ كلام العارفين قبل وفاتهم، نعمة اعرفوا شرفها، وكمال فضلها، وإنما اختار لقمانُ الحكمة لشرفها، هي برهان الصِدَّيقين، ونزهة المتقين، وفردوس العارفين، وميراث النبيين والمرسلين فاطلبوها قبل ذهابها

مصابيحُ الأنامِ بكلِّ أرضٍ... هُمُ العلماءُ أبناءُ الكِرامِ

تلألأ عِلمُهُم في كلِّ وادٍ ... كنورِ البدرِ لاح بلا غَمامِ


الحديث التاسع
[ أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ]
أخبرنا العبد الصالح الثقة أبو غالب عبدالله بن منصور بجامع واسط، أخبرنا أبو عبدالله محمد بن علي بن الحسين السلمي، قال: أنبأنا أبو الحسن بن أبي الفتح الضرير العثماني، قال: أنبأنا عمر بن محمد المقري، قال: أنبأنا عبدالرحمن بن أحمد ابن الحجاج، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن أبي الرجاء، قال: أنبأنا وكيع بن الجراح، قال حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويُخفى عنه كبارها، فيقال له: عملت كذا وكذا، وعملت يوم كذا: كذا وكذا، قال: وهو مُقِرٌّ ليس ينكر، قال: وهو مشفق من الكبار أن يُجاءَ بها، فإذا أراد الله به خيراً، قال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول حين طمع: إن لي ذنوباً ما رأيتها ها هنا "قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضحك حتى بدت نواجذه(1). ثم تلا:
(فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)(2).

وهذا الإشفاق هو شيء من أسرار اليقين بالله
وحال من سلطانه، يفرغه في قلوب أهل المعرفة به
ولهذا الحديث الشريف شأن جليل، يُنبئ عن كرم إلهي
فوق تعبير اللسان، يعرفه العارفون، ويزلق به الغافلون، ويزداد خوفاً من الله به الموفقون.
أي سادة، من أراد أن يتكلم بلسان أهل المعرفة، فينبغي أن يحفظ أدب كلامه، فلا يكشف دقائقه إلا عند أهله، وأن لا يُحَمِّلَ المريدَ فوق طاقته، ولا يمنع كلامه مَن كان مِن أهله، ويكون كلامه مع أهل المعرفة بلسان أهل المعرفة، ومع أهل الصفا بلسان الصفا، ومع أهل المحبة بلسان المحبة، ومع أهل الزهد بلسانهم، ومع كل صنف على قدر مراتبهم ومنازلهم، وقدر عقولهم، فإن الله تعالى جعل للعارف هذه الألسن، نعم كلها تتلاشى عند ظهور سلطان الحق، وينبغي أن لا يحدِّث بحديث لا يبلغ عقل المستمع إليه، فيكون ذلك فتنة، فإن أكثر الناس جاهلون، اشتغلوا بعلوم الظاهر، وتركوا علم تصحيح الضمائر، فلا يحتملون دقائق كلام العارفين، لأن كلماتهم لاهوتية، وإشاراتهم قدسية، وعباراتهم أزلية، فلذلك ينبغي للمستمع أن يكون معه السراج الأزلى، والنور الديمومي، ويقال: لسان الحال أفصح من لسان المقال، فمن رضي بالحال دون وَليِّ الحال، صار مخذولاً عن الحال، ومحجوباً عن ذي الجلال، وأي دهشه أشد من دهشة العارف، إن تكلم عن حاله هلك، وإن سكت احترق، فمن وَرَدَ قلبه الحضرةَ كَلَّ لسانُه، ومَن غاب قلبه عن الحضرة كثر كلامه.
قال ذو النون رحمه الله: ما رأيت محدثاً في قوم يحدثهم بغفلة إلا كان ذلك قسوة، وقال بعضهم: سكوت العارف حكمة، وكلامه نعمة، ويقال: ليس على تحقيق في المعرفة مَن يحدِّث بحديث المعرفة عند أبناء الآخرة، فكيف أبناء الدنيا؟ ما تكلمت مع أحد من الناس، إلا ودعوته إلى الله ثم كلمته. من لم يكن له حلاوة المعرفة، ورؤية المِنَّة، وشكر النعمة، ولذائذ القُربة، وخوف المفارقة، وأُنس الصُحبة، وإخلاص العبادة، وسرور الهداية، فليس له أن يتكلم بكلام أهل المعرفة، وإن تكلم فلا يحمِّل فوق الطاقة، ولا يمنع أهل الحاجة، ولا يضيع أهل الغفلة.
وحُكي أن رجلاً جاء إلى عارف قال: حدثني، فقال: إن مثلي معك كرجل وقع في القاذورات، فذهب إلى العطار، وقال: أين الطِّيْب، فقال العطار: اذهب اشتر الأشنان(1)، واغسل نفسك ولباسك، ثم تعال فتطيب، وكذلك أنت، لطخت(2) نفسك بأنجاس الذنوب، فخذ أشنان الحسرة، وطين وطين الندامة، وماء التوبة والإنابة، وطهر ظواهرك في إجّانة(3) الخوف والرجاء، من أنجاس الجُرم والجفاء، ثم اذهب إلى حمام الزهد والتقى، واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء، ثم ائتني حتى أطيِّبك بعطر معرفتي.
قال بعض الناس لعارف: إني لأعرف كلامكم، قال: كلام الأخرس لا يعرفه إلا أمُّه، ومن كلام عيسى عليه الصلاة والسلام: يا صاحب الحكمة، كُن كالطيب الناصح، يضع الدواء حيث ينفع، ويمنع الدواء حيث يضر، لا تضع الحكمة في غير أهلها، فتكون جاهلاً، ولا تمنعها من أهلها، فتكون ظالماً، ولا تكشف سرك عند كل أحد، فتصير مفتضحاً.
وقال ذو النون رحمه الله: رأيت رجلاً أسود يطوف حول البيت ويقول: أنت أنت أنت، ولا يزيد على ذلك اللفظ شيئاً، فقلت:
يا عبدالله، أي شيء عَنَيْتَ به، فأنشأ يقول

بين المحبينَ سِرٌّ ليس يُفشيه : خَطٌّ ولا قلمٌ عنه فيحيكه
نارٌ تقابِلُهُ، أُنسٌ يمازِجُهُ : نورٌ يخبِّرُهُ عن بعضِ ما فيهِ
شوقي إليه ولا أبغي له بدلاً : هذي سرائرُ كِتمانٍ تُناجيهِ

الحديث العاشر
[ أول من يدخل الجنة]
أخبرنا الشيخ أبو طالب محمد بن علي، عن أبي القاسم علي بن أحمد الرزاز، قال أنبأنا أبوالحسين محمد بن مخلد في سنة ثمان عشرة وأربعمائة، قال: أنبأنا أبوعلي إسماعيل بن محمد الصفار، قال: أنبأنا الحسن بن عرَفة العبدي، قال: أنبأنا أبوالنضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتحُ، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول محمد، فيقول: بِكَ أمرت أن لا أفتحَ لأحدٍ قَبلَكَ"(1).
وقد علم أهل العلم بالله، أن الجنة التي هي باب الخير الإلهي الأبدي، لا تُفتح إلا بفتح محمد صلى الله عليه وسلم لها
فهو الفاتحُ لكل خيرٍ دنيوي وأخروي، والعلمُ بشأنه هو سر العلم بالله تعالى، فمن أراد أن يُفتح له أبواب الخير الدنيوي والأخروي فعليه أن يتعلق بأذياله صلى الله عليه وسلم
فإن في نفحاتها علم المعرفة.
أي سادة، علم المعرفة هو العلم بالله تعالى
وهو نور من أنوار ذي الجلال، وخصلة من أشرف الخصال، أكرم الله به قلوب العقلاء، فزينها بحسن جماله، وعظيم شأنه، وخص به أهل ولايته ومحبته، وفضَّله على سائر العلوم، وأكثر الناس عن شرفه غافلون، وبلطائفه جاهلون، وعن عظيم خَطره ساهون، وعن غوامض معانيه لاهون، فلا يُدركه إلا أرباب القلوب الموفقون، وهذا العلم أساسٌ بُنيت عليه سائرُ العلوم
به يُنال خير الدارين، وعز المنزلين، وبه يَعرف العبد عيوب
نفسه، ومِنَن ربه، وجلال ربوبيته، وكمال قدرته، به يطيرُ سِرُّ العبد بجناح المعرفة في سرادقات لطائف القدرة
ويجول حول منتهى العزة، ويرتعُ في روضات القدس
فلا تتم العلوم كلها دون امتزاج شيء منه بها
ولا تفسد الأعمال إلا بفقده، ولم تسكن إليه قلوبٌ نظر الله إليها بالرأفة والرحمة، وأمطر عليها أمطار الفهم والبلاغة، وطيبها برياحين اليقين والفِطنة، وجعلها موضع العقل والفراسة، وطهرها من أدناس الجهالة والغفلة
ونوَّرها بمصابيح العلم والحكمة، قال الله تعالى
: (يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(1)،
وكل عارف يخشى الله تعالى ويتقيه على مقدار علمه بالله
عز وجل، لقوله تعالى:
( إنما يخشى الله من عباده العلماء)(2)
بنوره يعرف وساوس الشيطان، الدافعة إلى المعاصي والزلات، ويحذر به آفات الإرادات، قال الله تعالى:
(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)(3)
وقال الله تعالى: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)(4).
وفي الخبر: "إن من العلم كهيئة المكنون المخزون،
لا يعرفها إلا أهل العلم بالله، ولا ينكرها إلا أهل الغرَّة"(5)
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أي الأعمال أفضل؟ فقال: "العلم بالله"(6).
ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال:
يا رب، أي العباد
أكثر حسنة، وأرفع درجة عندك؟
قال: أعلمهم بي. وقال الإمام الجليل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه:
أعلم الناس بالله أشدهم تعظيماً لحرمة لا إله إلا الله،
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : من ازداد بالله علماً ازداد وَجَلا.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام:
أن يا داود تعلم العلم النافع، قال: إلهي، وما العلم النافع؟
قال: أن تعرف جلالي وعظمتي وكبريائي،
وكمال قدرتي على كل شيء، فإن هذا الذي يقربك إلي،
وإني لا أعذر بالجهالة مَن لقيني.
وقيل لمحمد بن الفضل السمرقندي(1):
ما العلم بالله؟ قال: أن ترى قضاءه في الخَلْق مُبْرَماً، والضر والنفع والعز والذل منه، وترى نفسَك لله، والأشياء كلها في قبضته، وأن لا تختار لنفسك غير اختيار، وتعمل لله خالصاً.
يا بني اجتهد في تعلم علم السر، فإن بركته كثيرة أكثر مما تظن، يا بني مَن تعلم علم العلانية دون علم السر هلك وهو لا يشعر.
يا بني إن أردت أن يكرمك الله بعلم السر فعليك ببغض الدنيا. واعرف حرمة الصالحين، وأحكِم أمرك للموت، قال الله تعالى: (وقُل ربّ زدني علماً)(2). (وعلّمك ما لم تكن تعلم)(3)
(وعلّمناه من لدنا علماً)(4) إلا أنه قال في موضعٍ آخر:
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا)(5). فرُبَّ رجل كثير الروايات جاهل بالله، إنَّ عِلم المعرفة فضلٌ من الله يؤتيه من اصطفاه مِن خَلقِهِ، واجتباه لصُحبته.
جاء في الخبر: " العلمُ عِلمان، علم باللسان،
وهو حجة الله على العباد،
وعلم بالقلب، وهو العلم الأعلى"(1)
لا يخشى العبد من الله إلا به وقال صلى الله عليه وسلم:
"أشدكم لله خشية أعلمكم بالله"(2).

وقال سفيان الثوري(3) رحمه الله:
العلماء ثلاثة:
عالمٌ بأمر الله غير عالم بالله، فذلك العالم الفاجر الذي لا يصلح إلا للنار،
وعالم بالله غير عالم بأمره، فذلك ناقص،
وعالم بالله وبأمره به، فهو العالم الكامل.

قيل لبعض العارفين: ما سبيل معرفة الله؟
قال: ليس يُعرَف بالأشياء بل تُعرَف الأشياء به،
كما قال ذو النون: عرفتُ الله بالله،
وعرفتُ ما دون الله بنور الله.
وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
إلهي، لولا أنت كيف كنتُ أعرف مَن أنت؟
ومِثله عن رابعة العدوية قالت لذي النون: كيف عرفت الله؟
قال: رزقني الحياء، وكساني المراقبة، فكلما هممتُ بمعصية ذكرتُ جلال الله فاستحييت منه.
مثل المعرفة كشجرة لها ستة أغصان،
أصلها ثابت في أرض اليقين والتصديق،
وفرعها قائم بالإيمان والتوحيد.
فأول أغصانها الخوف والرجاء مقرونين بغصن الفكرة.
والثاني: الصدق والوفاء مقرونين بغصن الإخلاص.
والثالث: الخشية والبكاء مقرونين بغصن التقوى.
والرابع: القناعة والرضاء مقرونين بغصن التوكل.
والخامس: التعظيم والحياء مقرونين بغصن السكينة.
والسادس: الإستقامة والوفاء مقرونين بغصن الود والمحبة.
ويتشعب من كل غصن ما لا نهاية له في العدد من أنواع الخير، والصدق في المعاملة، وأنس الصحبة، وفرائد القربة، وصفاء الوقت، وغير ذلك مما لا يصفه الواصفون، وعلى كل شعبة ثمار شتى، لا يشبه لون إحداها الأخرى ولا طعمها، تحتها أنوار التوفيق، جارية من ينبوع الفضل والعناية، والناس في ذلك على تفاوت الدرجات، وتباين الحالات، فمنهم من أخذ بفرعها غافلاً عن أصلها، محروماً من أغصانها، محجوباً عن حلاوة ثمارها، ومنهم من تمسك بفروعها، ومنهم من أخذ بأصلها وأخذ كلها من غير أن يلتفت إلى كلها، لانفراده بوليِّهِ خالقها، مَن لم يكن له نور من سراج التوفيق، ولو جمع الكتب والأخبار والأحاديث كلها، لم يزدد إلا بُعداً ونفوراً، كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
يُقال إن رجلاً جاء إلى الإمام علي عليه السلام فقال علمني من غرائب العلم، قال: ما فعلتَ في رأس العلم؟ قال: وما رأس العلم؟ قال: أعرفتَ ربك؟
قال نعم، قال: ما فعلتَ في حقه؟
قال ما شاء الله، قال: فانطلِق فأحكِم هذا، فإنْ أحكمته فَأْتِ أعلمكَ غرائب العلم، قيل: الفرقُ بين علم المعرفة وغيرها كالفرق بين الحي والميت.

الحديث الحادي عشر
[ يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته]

أخبرنا شيخنا الإمام المقرئ الجليل الشيخ أبو الفضل علي الواسطي قدس الله روحه، قال: أنبأنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد الواعظ، قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الرحمن الجمحي، قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز، عن ابن المبارك، عن حرملة بن عمران، عن يزيد بن أبي جندب، عن أبي الخير، عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"المرء في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس،
أو قال: يحكم بين الناس"(1) هذا لكونه ترك شيئاً قليلاً مما تحبه نفسه لربه، فكيف إذا خرج عن نفسه بالكلية؟
روي أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود عليه السلام:
بشِّر المُذنبين بأني غفور، وأنذر الصِدِّيقين بأني غيور.
ورُوي أن يوسف عليه الصلاة والسلام: لما ألقي في الجب، كان يقول: من لعب في خدمة مولاه، فغيابة الجب مأواه، وهنا كلمات من طرائف مختصرات القوم، تنشط بها همم الموفقين، يقول قائلهم رضي الله عنهم: حُقَّ لمن عرف المولى، أن لا يشكو من البلوى، إذا لم يعرف العبدُ المولى، فكل لسان له دعوى، ليس للعارف دعوى، ولا للمحب شكوى، إذا سبقت من الرب العناية، هُزِمَت من العبد الجناية، إذا سبقت العناية، وجبت الولاية، بالعناية تحصل الولاية، والولاية تهدم الجناية، ليس الشأن في الولاية، لكن الشأن في العناية، لم يُدرِك الولايةَ مَن فاتته العناية، المُصِرُّ من أَسَرَّ السِّر، طرحُ الخلق وجودُ الحق، اطرح الدعوى تجد المعنى، مَن كان له باطنٌ صحيح، فجميع كلامه مليح،
لا تغتر بصفاء الأوقات(1)، فإن تحتها فنون الآفات،
لا تغتر بصفاء العبودية، فإن فيها نسيان الربوبية،
خل الدارين للطالبين، واستأنس برب العالمين،
استَهْدِ بالله فنِعمَ الدليل، وتوكل عليه فنعم الوكيل،
ما دام قلب العبد بغير الله معلقاً، كان باب الصفاء عنه مُغلقاً، الأُنس بالله نورٌ ساطع، والأنس بالمخلوق هَمٌّ واقع، مَعدِنُ الأسرار قلوبُ الأبرار، قلوب الأبرار حصونُ الأسرار، القلب إذا ابتُلي بالمربوب، عُزِلَ عن ولاية المحبوب، خيرُ الرزق ما يكفي، وخيرُ الذكر الخفي، توكل تُكفَ وسَلْ تُعطَ، ليس باللبيب مَن اختار على الحبيب، بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، العبدُ إذا سخط عليه مولاه، سَخِطَ عليه ما سواه،
وإذا رضي عنه مولاه، رضي عنه ما سواه، عُذْرُ الحبيب عند الحبيب مبرور، وذنبُ الحبيبِ عند الحبيبِ مغفور، مَن أراد المولى فليتهيأ للبلوى.
هَوِّن الدنيا وما فيها عليك واجعل الحزن لِما بين يديك
الموت جِسرٌ مَهيب، يُوصِل الحبيبَ إلى الحبيب، ينبغي أن يكون العبدُ مشغولاً بما يكون غداً عنه مسؤولاً،
اجعل التُقى جليسَك، والدعاءَ أنيسك.

ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ (1)
الحبُّ يُحرق، والشوقُ يُقلق، وهذا سرورُ الخير،
فكيف سرورُ النظر؟ كل نعمة دون الجنة فانية،
وكل بلاء دون النار عافية(2)، التوبة تطهر الحوبة(3)، الاعتراف يهدف الاقتراف، هَب أن اللهَ قد عفا عن المُسيئين، أليس قد فاتهم ثوابُ المُحسنين،
أعِدّ للسؤال جواباً، وللجواب صواباً،
اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك، الرزقُ مقسوم،
والحريصُ محروم، العبدُ حُرٌّ إذا قنع، والحُر عبدٌ إذا طمع،
أخرج الطمع من قلبك، تحلّ القيدَ من رِجلك، قَدِّم إلى الحشر زادك، فإن إلى الله مَعادك، الدنيا دنيّة، وحُبها خطيّة(4)،
والدنيا ساعة، فاجعلها طاعة، الدنيا كلها غرور،
والعقبى كلها سرور، الدنيا معدن الخَطا،
والعُقبى معدن العطا(5)، الدنيا معدن الجفاء،
والعقبى معدن الوفاء، أساس التقوى ترك الدنيا،
أخوف الناس آمنهم، ما أغفلك عما خُلقت له،
وما أعجزك عما أُمِرتَ له،
منعك طولُ الأمل، عن ذكرأغفلك عما خُلقتَ له،
وما أعجزك عما أُمِرتَ له، منعك طول الأمل، عن ذكر الأجل،
لا تَعصِ مولاك بطاعة هواك، رأس الوفاء تَرْكُ الجفاء،
إن أردتَ المكارم، فاجتنب المحارم،
قليلٌ يكفيك خيرٌ من كثيرٍ يُطغيك،
المؤمن كثيرُ الفِعال، قليلُ المَقال،
والمنافقُ قليلُ الفِعال، كثيرُ المقال،
أتق الله إذا خلوت، يَستجب لك إذا دعوت،
غضبُ اللهِ أشدُّ من ناره، ورضوانُهُ أكبرُ من جنته،
دع التدبيرَ إلى الملك الخبير
، طَلَبُ الحلال، أشدُّ من نَقْل الجبال،
كل همٍّ وذكر لغير الله فهو حِجاب بينك وبين الله،
لا تقع المؤانسة بين العبد وربه،
حتى تقع الوحشة بينه وبين خلقه،
لا يصل العبدُ إلى الحق، حتى يعتزل عن صُحبةِ الخَلْق،
حسبي من سؤالي عِلمُهُ بحالي.
كلُّ محبوبٍ سوى اللهِ سَرَفْ
وعناءٌ وبلاءٌ وتَلَفْ

وهمومٌ وغمومٌ وأسَفْ ... ما خلا الرحمنَ ما عنهُ خَلَفْ

ما رأيتُ مثل الجنةِ نام طالِبُها، ولا مثل النار نام هاربُها
.
دُرْتُ حولَ المَشْرِقَيْن : ثمَّ دُرْتُ المغرِبَينِ
فوجدتُ الأمرَ كُلاَّ : لمَليكِ الثَقَلَيْنِ
حُبُّهُ مُنيَةُ قلبي : ذِكرُهُ قُرَّةُ عَيني


الحديث الثاني عشر
[ الراحمون يرحمهم الرحمن]
أخبرنا الشيخ الجليل المقرئ
العارف بالله خالي أبو بكر الأنصاري الواسطي، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، قال: أنبأنا أبو القاسم منصور ابن النعمي، قال: أنبأنا أبو نصر عبدالله بن سعيد بن حاتم الوائلي، قال: أنبأنا أبو يَعْلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي، قال: أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن بلال البزّاز، قال أنبأنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، قال: أنبأنا سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس(1)،
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الراحمون يرحمهم الرحمن،
ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء"(2).

هذا الحديث الشريف فيه من أسرار العلم بالله العجائب،
أَمَرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم بالرحمة لِمَن في الأرض من المخلوقين، لتحصل بذلك الرحمة للعبد مِن كل مَن في السماء من العُلويين، فإن السماء طريق تنزُّل الرحمات الربانية، ومحل أنبوب الإفاضات الرحموتية، ومقر الملائكة الذين جعلهم الله وسائط أسراره بينه وبين خلقه،
فإذا ألقى الرحمة في سر مَلَك الرزق طاب الرزق، وإذا ألقاها في سر كاتب الأعمال أنساه السيئات، وإذا ألقاها في سر الرقيب أعان ورفق، والرحمة حال العارف، ومعراج قلبه إلى ربه، وإن عباد الله العارفين، مظاهر لرحمة رب العالمين في المخلوقين، وهو سبحانه أرحم الراحمين.
أي بني، إذا تحققتَ بالرحمة للمخلوقين رُحمت، وإذا جالستَ العارفين نجحت، وإذا سألت الحكماء الربانيين تعلمت، أي بني، اعلم أن لكل شيء مفتاحاً، ومفتاح العلم السؤال، فإن قَدَرَ المُريد على أن يجالس أهل المعرفة، فيقتبس من علمهم، وتحقيق رمزهم، ولطائف إشاراتهم، فَبَخٍ بَخْ(1)، فإن شرف العلماء الربانيين، أكبر من أن يدركه أحدٌ غيرالله، لأنهم أحباءُ الله، وأُمَناءُ سِرِّه، فليغتنم حُرمتهم، وليحرك خواطرهم بحسن السؤال، فإن أمواج خواطر العارفين لا تفنى عجائبها، وكفى للمرء جهلاً إمساكُه عن التعلم، واستكفاؤه بما عنده، وقد قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(2)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جالسوا الكبراء، واسألوا العلماء"(3).
قال ذو النون: وُصِف لي رجلٌ بالمغرب، فارتحلتُ إليه، فوقفت عنده أربعين صباحاً، فلم أجد وقتاً أقتبس به مِن علمه شيئاً، لكمال شُغله بربه، ولم أترك الحُرْمة فيوماً من الأيام نظر إليّ فقال: من أين المُرتحِل؟ فأخبرته ببعض حالي، قال: بأي شيء جئت؟ قلت: لأقتبس من علمك، قال: اتق الله، واستعن به، وتوكل عليه، فإنه وليٌّ حميد وسكت، فقلت، زدني رحمك الله فإني رجل غريب، جئتك من بلد بعيد، لأسألك عن أشياء اختلجَت في ضميري(1)، فقال: أمُتعلِّمٌ أم عالِمٌ أم مُناظِر؟ فقلت: بل متعلم محتاج، قال: قِف في درجة المتعلمين، واحفظ الأدبَ ولا تتعدَّ، فإنك إن تعدَّيتَ فسدَ عليك النفع، العقلاء من العلماء، والعارفون من الأصفياء، الذين سلكوا سبيل الصدق، وقطعوا أودية الحُزْن، ذهبوا بخير الدارين، فقلت: رحمك الله متى يبلغ العبد إلى ما وصفت؟ قال: إذا كان خارجاً من الأسباب، قلت: ومتى يكون العبد كذلك؟ قال: إذا خرج من الحَول والقوة. قلت: وما نهاية العارف؟ قال: أن يصيرَ بالكُليّة كالمعدوم عندَ وجوده. قلت: ومتى يبلغ إلى مهيمنة(2) الصدّيقين؟ قال: إذا عرف نفسه. قلت: متى يعرف نفسه؟ قال: إذا صار مستغرقاً في أبحر المِنَّة، وخرج من أودية الأنانية، وقام على قدمٍ ياسينيّة(3)،
قلت: ومتى يبلغ العبدُ على ما وصفته؟ قال: إذا جلس على مركب الفردانية، قلت: وما مركب الفردانية؟ قال: القيام بصدق العبودية. قلت: وما صدق العبودية؟ قال: العلم لله تعالى، والرضا بالقضاء. قلت: أوصني. قال: أوصيك بالله. قلت: زدني، قال: حسبُك.
قال عبد الواحد بن زيد رحمه الله: رأيت رجُلاً في بعض أسفاري، وعليه ثوبٌ من الشعر، فسلمتُ عليه، قلت: رحمك الله أسألك مسألة؟ قال: أوجزْ، فإن الأيام تمضي، والأنفاس تُعَدُّ وتُحصى، والرب مُطَّلعٌ يسمع ويرى، قلت: ما رأس التقوى؟ قال: الصبر مع الله تعالى: قلت: ما رأس الصبر؟ قال: التوكل على الله،
قلت: وما رأس التوكل؟ قال: الانقطاع إلى الله.
قلت: وما رأس الانقطاع إلى الله؟ قال: الإنفرادُ لله.
قلت: وما رأس الانفراد؟ قال: التجريد عما دون الله.
قلت: ما ألذّ الأشياء؟ قال: الأُنسُ بذكر الله.
قلت: ما أطيبُ الأشياء؟ قال: العيشُ مع الله.
قلت: ما أقرب الأشياء؟ قال: اللحوق بالله(1)،
قلت: أي شيء أوجع للقلب؟ قال: فراق الله،
قلت: ما هِمّةُ العارف. قال: لقاء الله. قلت: ما علامة المحب؟ قال: حب ذكر الله. قلت: ما الأُنس بالله ؟
قال: استقامة السِرِّ مع الله.
قلت: ما رأس التفويض؟ قال: التسليم لأمر الله.
قلت: وما رأس التسليم؟ قال: ذكر السؤال عند الله(2). قلت: ما أعظم السرور؟ قال: حُسْنُ الظن بالله.
قلت: مَن أعظم الناس؟ قال: من استغنى بالله.
قلت: من أقوى الناس؟ قال: من استقوى بالله. قلت: من المغبون؟ قال: من رضي بغير الله. قلت: ما المروءة؟
قال: تركُ النزولِ بدون الله.
قلت: متى يكون العبد مُبعداً من الله؟ قال: إذا صار محجوباً عن الله. قلت: متى يكون محجوباً عن الله؟ قال: إذا كان في قلبه هَمٌّ غير الله. قلت: ومن الغُمْر(3)؟ قال: مَن أنفق عمره في غير طاعة الله. قلت: ما الزهد في الدنيا؟ قال: تَرْك كل شيء يشغل عن الله. قلت: مَن المُقبِل؟ قال: مَن أقبل على الله. قلت: ومَن المُدبِر؟ قال: مَن أدبر عن الله.قلت: ما القلب السليم؟ قال: الذي لم يكن فيه سوى الله. قلت: أخبرني من أين تأكل؟ قال: من خزائن الله. قلت: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله، قلت: أوصني. قال: اعمل بطاعة الله، وارضَ بقضاء الله،
واستأنس بذكر الله، تكن من أصفياء الله.
قال ذو النون المصري: كنت في بعض سياحتي، فإذا بشيخ وفي وجهه سيما(1) العارفين، قلت: رحمك الله، ما الطريق إليه؟ قال: لو عرفته لوجدتَ الطريق إليه، قلت: وهل يعبده مَن لا يعرفه؟ قال: وهل يعصيه مَن يعرفه؟ قلت: أليس آدم عصاه مع كمال معرفته؟ قال: فنسيَ ولم نجد له عزماً. ثم قال: يا هذا دع الاختلاف والخلاف. قلت: أليس في اختلاف العلماء رحمة؟ قال: بلى، إلا في تجريد التوحيد، قلت: وما تجريد التوحيد؟ قال: فقدان رؤية ما سواه لوحدانيته. قلت: وهل يكون العارف مسروراً؟ قال: وهل يكون العارف محزوناً؟ قلت: أليس من عرف الله طال هَمُّه؟ قال: بل من عرف الله زال هَمُّه، قلت: وهل تغير الدنيا قلوب العارفين؟ قال: وهل تغير العُقبى قلوبَهم؟ قلت: أليس من عرف الله صار مستوحشاً من الخَلْق؟ قال: معاذ الله أن يكون العارف مستوحشاً، ولكن يكونُ مُهاجراً ومُتجرِّداً، قلت: وهل عرفه أحد؟ قال: وهل جهله أحد؟ قلت: وهل يتأسف العارف على شيء غير الله؟ قال: وهل يعرف غير الله فيتأسف عليه؟ قلت: وهل يشتاق العارف إلى ربه قال: وهل يكون غائباً عن العارف حتى يشتاق إليه؟ قلت: وما اسم الله الأعظم؟ قال: أن تقول: الله. قلت: كثيراً ما قلتُ ولم يداخلني الهيبة، قال: لأنك تقول من حيث أنت لا من حيث هو. قلت عِظني. قال: حسبك من المواعظ علمك بأنه يراك. فقمت من عنده، وقلت: ما تأمر؟ قال: كفى بإطلاعه عليك في جميع أحوالك.
سُئل يحيى بن معاذ الرازي ما علامة القلب الصحيح؟ قال: الذي هو من هموم الدنيا مستريح. قيل: وما القوت؟ قال: ذكر حيٍّ لا يموت. قيل: وما صدق الإرادة؟ قال: ترك ما عليه العادة، قيل: وما الشوق؟ قال: ملاحظة ما فوق. قيل: متى يتم أمر العبد؟ قال: إذا سكن مع الله بلا هَمّ. قيل: وما علامة المريد؟ قال: أن لا يشتغل بالعبيد. قيل: وما رأس الهدى؟ قال: صدق التقى. قيل وما اللذة؟ قال: الموافقة. قيل: ومَن الغريب؟ قال: الذي ليس له من حبه نصيب. قيل: ومتى يبلغ العبد إلى ولاية مولاه؟ قال: إذا عزل عن قلبه كل مَن سواه. قيل: وما الراحةُ الكُبرى؟ قال: التسليمُ للمولى. قيل: وما أفضل الأعمال؟ قال: ذكر الله على كل حال. قيل: وما الفاقة العظمى؟ قال: دوام الأنس بالمولى. قيل: وما حجاب القلوب؟ قال: الاستكفاء بالمربوب. قيل: وما العيش الجميل؟ قال: العيش مع الجليل. قيل: وما حقيقة الوفاء؟ قال: الصدق والصفاء. قيل: ومن المُحِبُّون؟ قال: العارفون. قيل ومن العزيز؟ قال: من تعزَّزَ بالعزيز، قيل ومن الشريف؟ قال: من آنس اللطيف. قيل: ومن الغُمْر؟ قال: مَن ضيَّع العُمْر. قيل ما الدنيا؟ قال: ما شغلك عن المولى.
نعم، معدن المعرفة القلب لقوله تعالى: (فإنها من تقوى القلوب)(1) ومعدن المشاهدة الفؤاد لقوله تعالتعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى)(2) ومعدن النور الصدر لقوله تعالى (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)(3)
وما ازداد حباً لله تعالى إلا ازداد حباً لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأوليائه.

الحديث الثالث عشر
[ المَرءُ مع مَن أحَبّ]

أخبرنا الشيخ الجليل الولي الأصيل، فَرْدُ الوقت أبو المكارم الباز(1) الأشهب(2)، خالي وسيدي منصور الرباني الأنصاري البطايحي رضي الله عنه برواقه في نهر دقلا، قال: حدثنا: أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني، قال: أنبأنا أبو عمرو عثمان بن محمد العلاف قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن سليمان إملاء، قال: قرأ عليّ يحيى بن جعفر بي أبي طالب وأنا أسمع، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن الأعمش، عن شقيق عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يلحق بهم،

قال: "المَرءُ مع مَن أحَبّ"(3)

هذا الحديث الشريف مُلْزِمٌ بمحبة العارفين، مُبشر بالإلحاق بهم إذا صَحَّت المحبة، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله، وإن من سِرِّ الحب الخالص، أن يرفع العارف إلى مقام السرور والنجوى في المحاضرة عند سواه.
أي بُنَيّ اعلم أن العارف بأسرار المريدين، المتطلع على همم العارفين، كَلَّفَ العبادَ وفاءَ صدق العبودية، ثم بيَّن لهم تحقيق شرائطها، كيلا يتجاوزوا حَدَّ العبودية إلى حَدَّ الربوبية،
وحَدَّ الفقر إلى حَدَّ الغنى، قال تعالى
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)(1) الآية، وجعل لكل شيء سبباً، فجعل سبب المخرج من عبودية المخلوقين، القيام بصدق العبودية، قوله تعالى:
(ومن يتق الله يجعل له مخرجاً)(2)،
مِن عبودية مَن سواه، (ويرزقه) المؤانسة والمحبة والشوق إليه (من حيث لا يحتسب) ومعنى آخر: (ومن يتق الله) بحفظ السر عن آفات الالتفات إلى ما سواه (يجعل له مخرجاً) من حُجُبِ الإبعاد، ويرزقه المشاهدةَ والوَصلة (من حيث لا يحتسب)، وكذلك جعل سبب معرفة العبد ربه معرفة العبد نفسه، بشاهد: مَن عرف نفسه "أي بالعبودية " عرف ربه"(3) بالربوبية، ومَن عرف نفسه بالفناء، عرف ربه بالبقاء، ومَن عرف نفسه بالجفاءِ والخطأ، عرف ربه بالوفاءِ والعطاء، ومَن عرف نفسه بالافتقار، قام لله على قدم الاضطرار، ومَن عرف نفسه لمولاه، قَلَّت حوائجه إلى مَن سواه.
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن عرف الله قام بحقه"(4) أي من عرف الله بالهداية سَلَّمَ نفسه إليه، ومَن عرف الله بالربوبية قام له بأشراط العبودية، ومن عرف الله بالجزاء أوقع نفسه في العناء، ومن عرف الله بالكفاية، اكتفى به عن كل ما سواه.
روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: ألا مَن عرفني أرادني وطلبني، ومَن طلبني وجدني، ومَن وجدني لم يختر علَيَّ حبيباً سواي.
قال الشيخ أبو بكر الواسطي رحمه الله: مَن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، ومن أطاعه قطع عن قلبه كل ما دونه، ومَن حُرِم المعرفة، حُرِم حلاوة الطاعة، ومَن حُرِم حلاوة الطاعة، حُرِم المؤانسة في الخلوة، فلا يجد في المعاملة رؤية المِنَّة، ولا يعرف قَدَرَ اللهِ على الحقيقة، ويُغلب في الأحوال فيسقط عن استقامة السِرِّ مع الحق.
وقال يوسف بن أسباط(1) رحمه الله: مَن عرف الله وفي قلبه هَمٌّ سوى الله، لم يسجد سجدةً خالصةً لله، ومَن عرف الله ولم يستغن بالله، فلا أغناه الله، ومَن قال: الله، وفي قلبه شيء سوى الله فلم يقل: الله، نعم مَن خاف الله في كل شيء آمنه الله من كل شيء، ومَن أنِسَ بمولاه استحوش عن كل ما سواه، ومَن اعتَزَّ بذي العِزِّ عَزّ، ومَن اغتر بغيره فلا فخر ولا عز، ومَن انقطع عن الأسباب الشاغلة عن الله اتصل بالأسباب الشاغلة بالله، ومَن ترك عروة العلاقات صار مستأنساً به في جميع الأوقات، ومَن ذاق حلاوة ذِكرِ مولاه ظهرت له أسرار الغيوب، ومَن جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم، ومن طلب رضاء مولاه لا يبالي بسخط ما سواه، ومن اكتفى بمقامه حُجِبَ عن إمامه، ومَن كان لله قريباً كان مع غيره غريباً، ومَن أراد عِزَّ الدارَين فلينقطع إلى مَن له مُلك الدارَين، ومَن ترك حُسْنَ الرعاية زَلَّ عن سبيل الهداية، ومَن أراد أن يشرب من محبة الله شَربةً فليشرب من بُغض غير الله جُرعة، ومن استأنس بكل شيء استوحش من كل شيء، ومَن سَكَنَ قلبه إلى شيء فليس من الله في شيء، قال عليه الصلاة والسلام: "مَن أصبح وهَمُّه غير الله فليس من الله في شيء" (2)،
قال الله تعالى في بعض الكتب:
مَن أرادنا أردناه، ومن أراد مِنّا أعطيناه، ومَن أحَبَّنا أحببناه، ومن اكتفى بنا عمّا لنا كُنّا له وما لنا، ألا مَن طلبني وجدني،
ومن طلب غيري لم يجدني،
قيل: ألا مَن طلبني بالتوبة وجدني بالمغفرة،
ومَن طلبني بشكر النعمة وجدني بالزيادة،
ومَن طلبني بالدعاء وجدني بالإجابة،
ومَن طلبني بالتوكل وجدني بالكفاية،
ومَن طلبني بالقُربة وجدني بالمؤانسة،
ومَن طلبني بالمحبة وجدني بالوَصلة، ومن طلبني بالاشتياق وجدني باللقاء والرؤية
.
وقال بعضهم: مَن كان لله كان الله له،
أي مَن كان في أمر الله كان الله في أمره، ومَن كان في ذكر الله كان الله في ذكره، ومَن كان في حب الله كان الله في حبه،
ومن كان في مرضاة الله يكن الله في مرضاته،
(ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم)(1).
قال صلى الله عليه وسلم
(مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه،
ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)(2)،

ومن حكم العارفين قول قائلهم:
من ابتُليَ بمعاملة العبيد، فليلبس لهم لباساً من حديد،
ومن رضي من الدنيا باليسير فقد استراح من شغل كثير،
ومن أصبح على الدنيا حريصاً أصبح من الله بعيداً،
ومَن هَتَكَ ستر التُقي لم تستره السموات العلى،
ومن نظر في عواقب الأمور سَلِمَ من نوائب الدهور،
ومن لم يقنع بالقليل وقع في غمٍّ طويل،
ومن سَلَّ سيف التُقى ضرب به عنق الردى،
ومن كان مسروراً لم يزل مغموراً،
ومن لم يحفظ لسانه فسد عليه شأنه،
ومن لم يعرف موضع ضُرَّه لم يعرف موضع نفعه،
ومن أعرض عن صحبة الفجار عوضه الله صحبة الأبرار،
ومن أخذ عِزّاً بغير حق أورثه الله ذُلاًّ بحق،
ومن ضيَّع أيام حرثه ندم أيام حصاده،
ومن توكل على غير الله يعذبه الله به،
ومن رضي بالله وكيلاً صار له بكل خيرٍ دليلا،
ووجد إلى كل خيرٍ سبيلا،
ومَن عرف حلاوة النجوى لا يجد مرارة البلوى،
(ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى)(1).

وقيل: ثلاث كلمات كان الأخيار من المتقدمين يوصي بعضهم بعضاً في كتبهم بهن: مَن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.
شعر
:
إذا السِرُّ والإعلانُ في المؤمنِ استوى: رأى العِزَّ في الدارَينِ واستوجبَ الثنا

وإن خافَ ألإعلان سراً فما له : على فعله فضلٌ سوى الكدِّ والعنا

آخر

من اعتزَّ بالمولى فذاك جليلُ ... ومن رام عِزّاً مِن سواه ذليلُ
فلو أنَّ نفساً مُذْ براها مليكُها ... قضت وطراً في سجدةٍ لقليلُ


ـــــــــــــــــــــــ
يتبع إن شاء الله


عدل سابقا من قبل سيداحمدالعطارالرفاعى في الثلاثاء 17 يوليو 2012, 5:13 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالثلاثاء 17 يوليو 2012, 3:56 am

الحديث الرابع عشر

[ الأعمال بالنيات]

أخبرنا شيخنا الشيخ أبو الفضل علي المقرئ القرشي الواسطي رحمه الله تعالى رحمة واسعة، قال: أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن أحمد بن حموية السرخسي، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد ابن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا يحيى بن قزَعة، قال: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن علقمة بن وقاص،
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:

قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته
إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1).

ومن هذا الطريق روى هذا الحديث سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه بنص:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.."(2) إلى آخر الحديث، وهو نص عليه مدار الدين، وأحكام العلم والعرفان واليقين، وبه قلوب العارفين، إلى حضرة قدس رب العالمين.


خُذْ طارفَ السَيرِ بلا عائق: لله لا تقصد سوى اللهِ

فكل ما أمَّلتَهُ قائمٌ : بهجرةِ القلبِ إلى اللهِ



أي بني، أهل الحجاب يتعجبون من كلام أولي الألباب،
وربما ينتهي التعجب بهم إلى طرف من الإنكار،
لقوله تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون) (1)
أي تنكرون فعلهم.
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه
قال: كانت تحت الجدار الذي أخبر الله عنه بقوله:
(وكان تحته كنز لهما)(2) لوح من ذهب، والذهب مكتوب فيه
: بسم الله الرحمن الرحيم،
عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟
وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن؟
وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك،
وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟

لا إله إلا الله محمد رسول الله
.
قال وهب (3) رحمه الله: بينما كنت أسير في أرض الروم،
إذ سمعت صوتاً من شاهق الجبل يقول:
إلهي عجبت لمن عرفك، كيف يتعرض لسخطك برضاء غيرك، إلهي عجبت لمن عرفك، كيف يرجو غيرك، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بشيخ ساجد، يقول: سبحانك عجباً للخليقة، كيف يريدون بك بدلاً، سبحانك عجباً كيف يشتغلون بخدمة غيرك، سبحانك عجباً للخليقة، كيف يشتاقون إلى غيرك؟
سبحانك سبحانك كيف يتلذذون بغيرك وبشيء دونك.
فمضيت وما أشغلته عما رأيت.
قال أبو يزيد رحمه الله: عجبت لأهل الجنة كيف يتلذذون بدونه،
أم كيف يستأنسون بغيره،
وعجبت ممن يسكن إلى حال دون وليّ الأحوال،
والعجب لمن


أقبل على الخَلْق والحق يقول: إليَّ إليّ
.
قال أبو عبدالله بن مقاتل رحمه الله: عجبت لابن آدم، اختاره الله لنفسه مع غناه عنه، وهو يُعرض عنه مع فقره إليه، وعجبت لمن يشغل نفسه بشيء وهو يعلم أنه قد فرغ منه، وعجبت ممن يأمر غيره بما لا يفعله، ويغضب على غيره بما يفعله، وممن يكره أن يُعصى وهو عاص، وممن يحب أن يُطاع وهو غير مطيعٍ لربه، وممن يلوم غيره على الظن، ولا يذم نفسه على اليقين(1).
قال حاتم الأصم(2) رحمه الله: عجبت ممن يستحي من الخلق كيف لا يستحي من الخالق، ولمن يطلب رضاء المربوبين كيف لا يطلب رضاء الرب، ولمن يحب أهل الطاعة وهو مقبل على المعصية، ولمن يعرف جلال الله كيف يعرض عنه، ولمن يأكل رزق ربه كيف يشكر غيره، ولمن يشتري المملوك بماله، كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه وطيب كلامه.
وقال خُنيس بن عبدالله : عجبت من رجل ليله قائم، ونهاره صائم، ويجتنب المحارم، ولا تلقاه إلا باكياً حزيناً، ورجل ليله نائم، ونهاره لاعب، ويرتكب المحارم، ولا تلقاه أبداً إلا ضاحكاً مستبشراً.
وقال يحيى بن معاذ(3) رحمه الله: عجبت ممن يتذلل للعبيد وهو يجد من سيده ما يريد، وعجبت لمن كان قوته رغيفاً يعصي رباً لطيفاً، وعجبت لمن يخاف على موت نفسه، ولا يخاف على موت قلبه، ولمن يخاف على فوات دنياه،
كيف لا يخاف على فوات دينه.

قال يحيى بن معاذ: إلهي ذِكرُ الجنة موت، وذِكرُ النار موت، فيا عجباً لنفسي تحيا بين مَوتين، أما الجنة فلا صبر عنها، وأما النار فلا صبر عليها، وقيل: ذكر الوصال موت، وذكر الفراق موت، كيف يحيا قلب بين موتين، موت العارف عجيب، لأن العارف بين سرور المعرفة وخوف الفرقة، فكيف الموت مع سرور المعرفة، أم كيف الحياة مع خوف الفرقة؟
عجبتُ لِمَن يقولُ ذكرتُ ربي: وهل أنسى فأذكرُ مَن نسِيتُ

أموتُ إذا ذكرتكَ ثم أحيا : ولولا ماءُ وصلكَ ما حييتُ

فأحيا بالمُنى وأموتُ شوقاً: فكم أحيا عليكَ وكم أموتُ

شربتُ الحبَّ كأساً بعد كأسٍ : فما نَفِدَ الشرابُ وما رَوِيتُ


يا عجباً
تَغَرَّبَ أمري عِندَ كلِّ غريبِ
فصِرتُ عجيباً عِندَ كلِّ عجيبِ


الحديث الخامس عشر
[ مرحباً بوصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم ]

أخبرنا القاضي الإمام المُقري الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي بداره بواسط، قال: أنبأنا أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري، قال: أنبأنا أبو يعقوب، قال: أنبأنا زاهد بن أحمد، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم بن نيروز، قال: حدثنا المطلب بن شعيب بن عبدالله بن صالح، قال: حدثنا الهقل بن زياد، عن بكر ابن خنيس، قال: حدثني عاصم بن عبدالله النخعي، عن أبي هارون العبدي، قال: أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فسألناه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
" إنه سيأتيكم بعدي أناس من الآفاق يسألونكم عن حديثي
وعن السُنَّة فاستوصوا بهم خيراً فكان إذا رآنا قال:
مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).

هذا الحديث الشريف يجذب العارف إلى طلب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وسُنّته، ليكون محل نظره النبويّ، في بُحبوبة التوصية السارية في عوالم الله تعالى، وهل لباب المعرفة بالله، إلا الأخذ بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بسُنته السُنية؟ وهذا القامع للنفس.
أي بُنَيّ، اعلم أن معرفة النفس، أحد أصول العبودية وقَلَّ مَن يعرفها، وعَزَّ وجود من يتمنى عرفانها، وما خلق الله تعالى في الدارين سِجناً أضيق على العارف، ولا أوحش ولا أنتن من النفس، فَمَن عرفها على التحقيق، وخالف أمرها "فكُلَّ أرضٍ له ثِغرٌ وطرسوس"(1)، ومن غفل عن معرفتها، فهو على خطرٍ عظيم، ولا يسلم من شرها، فإنَّ مَن لا يعرفها كيف يقوم بمخالفتها.
قال أحمد بن حرب: إني لأشتهي أن أموت ولو ساعة، حتى أعرف نفسي وأخالفها، قال محمد بن الفضل (2): من عرف نفسه لا يتنفس نَفَساً إلا بدوام جهدها، وكثرة عبادتها، ولا يغتر بصفاوة أوقاتها، وحسن أحوالها، ولطائف أنفاسها، وصِدق معاملتها، لما علم من غوامض آفاتها ومكرها وسوء طبعها وكمال شرها، وإني تفكرتُ في جميع عمري، ونظرتُ في شأن نفسي، فما رضيت في عمري من نفسي طرفةَ عين.
قال الأنطاكي(3) رحمه الله:
مَن يعرف نفسه فهو مغرور،
قال إبراهيم بن أدهم(1)
رحمه الله: خالطتُ الناس سبعين سنة، فما وجدتُ رجلاً إلا وهو راكب هواه، حتى أنه إن أخطأ أحبَّ أن يُخَطِّئ الناس كلهم،
ولأن يُضرب ظهري بالسياط،
أحب إليّ من أن يُقال أخطأ فلان المسلم،
وقال إبراهيم التَّيمي(2):
ما عرضتُ قولي على عملي إلا وجدته مكذوبا.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يقول:
اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي.
قال ذو النون: من نظر بعين المعرفة إلى سلطان ربه فَنِيَ عنه سلطانُ نفسه، ومن نظر إلى عظمة ربه صَغُرَت عنده عظمة نفسه، وقُهِرَت تحت جلال هيبته. وقيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته أم يحيى: لو تزوجت يا أبا يحيى، قال: لو استطعتُ لطلقتُ نفسي، ولو أن منادياً ينادي بباب المسجد: لِيخرج شرَّكم رجلاً،
فو الله ما سبقني أحدٌ إلى الباب إلا رجل له فضل قوةٍ في السعي.
وقال أبو يزيد: قلت يا رب كيف الوصول إليك؟
قال: يا أبا يزيد دَعْ نفسَكَ وتعال.
لقي حكيمٌ حكيماً فقال: يا أخي إني لأحبك في الله،
فقال: يا أخي والله لو علِمتَ مني ما أعلم من نفسي
لَبَغِضْتني الحالة.
وكان بكر بن عبدالله المزني(3) ومطرف بن عبدالله(4) بالموقف، فقال مطرف: اللهم لا تردهم لأجلي،
وقال بكر: ما أشرف هذه المواضع وأرجاها لولا أنا فيهم
اللهم لا تحبس المغفرة بشؤمي، ولا تردهم لأجلي.
وقال موسى بن القاسم(5) :
وقع عندنا زلزلة وريح حمراء، فذهبت إلى محمد
ابن مقاتل، فقلت: يا أبا عبدالله ادعُ الله لنا فأنت إمامنا،
فقال: ليتني لا أكون سبب هلاككم، فقال موسى بن القاسم:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام فقال:
إن الله دفع عنكم البلاء بدعاء ابن مقاتل.
وكان عطاء السلمي(1) يبكي كلما هبت ريح شديدة، ويقول:
هذه من أجلي يصيب بها الخلائق، لو مات عطاء لاستراح الخلائق من بلائه، وكثيراً ما ينوح على نفسه، ويقول:
يا عطاءُ لعلك أول مسحوب إلى النار وأنت غافل.
وكان الفضل(2) واقفاً بعرفات، فنظر إلى جميع الناس وقال:
يا له من موقف ما أشرفه لولا أنا فيهم، ثم بكى ورفع رأسه وأخذ لحيته وقبض عليها وقال:
يا سوأتاه على ما كان من نفسي، فإنها مغرورة وبالثناء مسرورة، وإن من غاية بلاء النفس،
أن لو مات نصفها لم يصلح النصف الآخر.
وحُكي أن أبا يزيد البسطامي قال: نظرت في حال عبادتي فرأيتها مختلطة، ثم نظرت إلى نفسي وتركيبها، فإذا هي منسوبةٌ إلى كل بلاء، ورأيتها لا تخلو من الشرك، وعلمت أن الله تعالى لا يقبل الشرك، فقلت لها:
يا مأوى كل شر، إلى كم يدعوك الله إلى توحيده ولا تنظرين إليه؟ فاشتد على قلبي غم هذا الإشراك، فعمدتُ وأعددتُ لها كانون الصياغة ثم سَعَّرْتُ فيه نار الحق، ووضعت فيه كير اللَّيْسية، ونصبتُ سندانَ الوحدانية، وضربتها بمِطرقة الأمر والنهي،
وطال بي العناء، فلما نظرتُ إليها وجدتها مُشركة، فقلت:
إنا لله وإنا إليه راجعون، إنها لا تنظف بالجفاء، فلعلها تنظف بالرفق واللين والمُداراة، فرددتها إلى بستان ذكر المِنَّة،
ووضعتُ بين يديها رياحين رؤية اللطف والكرامات،
وتروحت بمراوح التحنُّن والبر والإحسان، وطال مني العناء،
فلما فتَّشتها وجدتها مُشركة، فقلت لها:
يا مأوى كل شر وبلاء، لا تصلحي بالجفاء ولا بالرفق،
ثم رددتها إلى قصار الأحذية، ليضربها على حجر الفردانية، ويغسلها بماء صفوة الصمدانية، فلم يزل يضربها رجاء أن تنظف من الإشراك، وطال مني العناء، فلما نظرت إليها فإذا هي مُشركة، فقلت: إنا لله لعل صلاحها من وجه آخر، ثم أنزلتها بمنزلة امرأة مستحاضة، فلم أزل أنظر إليها كالمُتحيِّرِ المُضطر، وأنظر إلى بلائها حتى أيسْتُ منها، وعلمتُ أن لا يتأتّي مُرادي منها،
فطلقتها ثلاثَ تطليقات وتركتُها،
وصِرتُ وحدي إلى ربي، وناديته:
يا عزيزي أدعوك دعاءَ مَن لم يبق له غيرك بالعتق من عبودية
ما سواك، فلما علم الله تعالى صدق الدعاء مني، واليأس من نفسي، كان أول إجابة الدعاء أن أنساني نفسي بالكُلّية.
قال أبو سليمان(1): لو أن الخَلْق اجتمعوا على أن يضعوني كإيضاعي عند نفسي لم يقدروا على ذلك. طوبى لعبدٍ أطلعه الله على شر النفس، وعرف أصل خِلقتها، وأنواعَ عوارضها، ومَقْتَها ومَألفها، وقهرَها وحَقَّرَها، واتَّهمها وَوَضَعَها.

الحديث السادس عشر
[ فضل الصحابة رضوان الله عليهم]

أخبرنا سيدنا فرد الوقت أبو المكارم الباز الأشهب الشيخ منصور الرباني البطايحي الأنصاري رضي الله عنه برواقه في بلدة نهر دقلا من واسط، قال: أنبأنا أبو عبدالله مالك بن أحمد بن علي الفرّا قراءة عليه، قال: أنبأنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، قال: حدثنا عبيد ابن أسباط، عن أبي سفيان، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفه رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اقتدوا باللذَين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمّار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد"(1).
فقد أمر عليه الصلاة والسلام بتصحيح القدوة بالشيخين العظيمين، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنهما، وبالتحقق بالإهتداء بهدي عمار رضي الله عنه،
فإنه مات على حب الصهر العظيم، الصنو الكريم،
سيدنا علي رضي الله عنه، وأكد لزوم التمسك بالعهد، كما كان محافظاً عليه ابن أم عبد رضي الله عنه، وفي هذا حكمة الجمع بين حب الصحب والآل، سر يدركه العارفون الموفّقون.

وقد جعل صحة المتابعة له بإتباع الشيخين رضي الله عنهما، وحقيقة الاهتداء بهديه بموالاة الأمير رضي الله عنه، وجمع بين النكتتين بلزوم التمسك بالعهد، ومتى اقتدى العبد اهتدى، ومتى اهتدى تمسك بعهد الله، وهناك وقد عرف، وهل المعرفة بالله تعالى إلا هذا، فإن من اهتدى بهدي محمد صلى الله عليه وسلم واقتدى به، وتمسك بعهده، أقبل على الله، وأعرض عن غيره.
جاء في الخبر أن الله تعالى قال: " يا دنيا اخدمي مَن خدمني، واستخدمي مَن خدمك"(1) وليس من معالي الهمة الاشتغال بما فيه حظ النفس، وفي نَعْتِ النبي صلى الله عليه وسلم بعلوّ همته الشريفة (ما زاغ البصر وما طغى)(2)
ولا يصل العبد إلى الله تعالى،
حتى يقطع مفاوز الدنيا وما فيها، ومن زهراتها ولذاتها،
وراحاتها وشهواتها، ويجاوز أودية الخَلق وما منهم، من جميل معاشرتهم وثنائهم ومَحْمَدَتِهِم، وأن الله تعالى خلق جميع ذلك ابتلاءً لكل مَن أراد أن يصير مجرداً، حتى إن التفت إلى شيء منها صار مفتضحاً في دعواه، وغرق في أودية الحُسبان(1) والخُسران، فكم مستدرَجٍ بالنعم، محجوبِ عن الخَلق، غافل عن الصدق، جاهل بعرفان النفس، يصبح ويمسي على الحسبان، فيبدو له من ذي العرش ما لم يكن يحتسب؛ قال الله تعالى:
[ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون](2)
وأن من معالي الهمة، ما قيل لأبي عبد الله:
لو أعطاك الله تعالى الدنيا بجميع ما فيها، ماذا تفعل بها؟
فقال: لو أمكنني أن أجعلها لقمة، وأضعها في فم كافر لفعلت،
قيل: ولم؟
قال: لأن الله تعالى يبغض الكافر والدنيا جميعاً، فأفعل ذلك ليقع البغيضُ إلى البغيض.
ثم حُكي من صدق ما ادعاه أن سلطان هراة (3)
بعث إليه سبعة أوقار من الحنطة، وكان الشيخ يومئذ بهراة مع أصحابه، فأطعم الخادم منها أولياءه، فقال له أبو عبدالله:
أطعم الباقي فقراء العامة فقال: لا يمكن، الأبواب مغلقة، فقال: اذهب به إلى المجوس الذين هم في جوارنا قال الخادم: فخشيتُ عقوبة الله تعالى في ترك أمره، فأعطيته المجوس، فجاؤوا بكرة إليه وقالوا: ما الحكمة في إعطائك إيانا ونحن مخالفوك؟
فقال: الدنيا عدو الله، والكافر عدو الله، ولا يقرب الحبيب من الحبيب حتى يبعد من عدوِّه، قال: فأسلموا جميعاً على يديه.
حُكي أن بعض المريدين كان يمشي في البادية، فحدثته نفسه ببعض حاجتها، فإذا هو على شط بئر، فرمى ركوته في البئر ليستقي الماء فخرجت له الركوةُ مملوءةً من الذهب، فرمى بها في البئر،
وقال: يا عزيزي لا أريد غيرك.

قال عمار القرشي: كنت في البادية فأردت التلبية وكنت حاجاً، فأخذت منديل شيخ لي فقددته نصفين، واتزرت بنصفه، وارتديت بالآخر، فلم تزل نفسي تنازعني ببعض الحاجة، فإذا البادية كلها فضة، فمضيت وقلت: إلهي إني أعوذ بك من كل إرادة سواك.
قال عيسى عليه الصلاة والسلام: طوبى لرجلٍ ذَكَرَ الله، ولم يذكر إلا الله، وطوبى لرجل خشي الله، ولم يخشَ إلا الله،
وطوبى لعبدٍ سأل الله، ولم يسأل إلا الله.
وحكي أن الإمام بن الإمام سيدنا زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما، قال: كنت عند أبي عبدالله الحسين عليه السلام، أقرأ في بعض الكتب، وكان في يده سكين، فرأيت حرفاً خطأ، فقلت: ناولني السكين لأصلح هذا الحرف، فناولني فلما قضيتُ الحاجة رددته عليه، فقال لي: يا علي لا تعد إلى هذه مرة أخرى، فتقع إلى ذُلّ السؤال، وخساسة الهمة.
ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال ذات يوم لثوبان رضي الله عنه:
"يا ثوبان لا تسأل الناس"(1)
فكان ثوبان ربما يسقط السوط من يده،
فلا يقول لأحد ناولني إياه حتى ينزل ويرفعه.
وسأل رجل من سفيان رحمه الله كسرة فأعطاه ديناراً، فقيل له في ذلك فقال: إن كان لا يعرف هو قدر نفسه فلا أدع كرم نفسي،
وإن كان هذا ترك الهمة فأنا لا أدع الجود،
همم العارفين متصلة بمحبة الرحمن، وقلوبهم ناظرة إلى مواضع العز من العزيز، لا راحة لهم في دار الدنيا دون الخروج منها، وكان كثيراً ما يرى


حبيب العجمي(1) رضي الله عنه يوم التروية بالبصرة، ويوم عرفة بعرفات، فقيل له في ذلك فقال:
هو أقل ما أطار إليه الهمةَ أهل الهمة.
ودخل علي كرم الله وجهه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أعرابياً في المسجد يقول:
إلهي أريد منك شويهة(2)،
ورأى أبا بكر الصديق في زاوية أخرى يقول:
إلهي أريدك، فشتان ما بين الهمتين، فكلٌّ يطير بهمته،
فإذا بلغ طيرانه إلى غاية همته وقف فلم يجاوزها
قال الله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته)(3)
أي على نيته وهمته.
وقيل لأبي يزيد: سمعنا أنك تمرُّ على الماء، وتطيرُ في الهواء، فقال: المؤمن أعزُّ على الله من السماوات السبع،
فأي عجبٍ أن يبلغ مقام طير أو حوت،
قُرئ بين يدي ابن المبارك (4) قوله تعالى:
( أولئك يسارعون في الخيرات)(5)
فقال: ليس أنه يسبق بدنٌ بدناً، ولا عملٌ يسبقُ عملاً، ولكن هِمةٌ تسبق هِمّة، في جميع الخيرات والإرادات.
قال بعض العارفين: مساكينُ أهل الغفلة، يشتغلون بكثرة الأعمال، ويعظمونها ويفتخرون بها، ولو أن أهل المعرفة عملوا أعمال أهل السموات والأرض من الأزل إلى الأبد كان ذلك أصغر وأحقر في أعينهم من خردلة في السماء والأرض.

قال النبي صلى الله عليه وسلم
" لا تستكثروا طاعتكم، ولا تستقلوا ذنوبكم"(1)
ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يمر على شاطئ البحر، فقال إلهي قد اصطكت ركبتاي، وانحنى ظهري،
حبيبي فما أنت صانع بي؟
فأمر الله تعالى ضفدعاً أن يجيبه، فقال يا بن عمران.
أتَمُنُّ على ربك بعبادتك إياه،
وقد اصطفاك وكلمك، وقربك وناجاك، فوالذي خلقني ويراني،
إني على صخرة منذ ثلاثمائة وستين سنة، أسبحه ليلا ونهاراً
لا أفتر منها لحظة، ومنذ ثلاثة أيام لم آكل، وكل ساعة ترتعد فرائصي من هيبته.
وقال أبو سعيد أبو الخير كنتُ في البادية فنالني جوعٌ شديد، فطالبتني نفسي أن أسأل الله طعاماً، فقال ليس هذا من دأب المتوكلين، فطالبتني أن أسأله اصطباراً، فلما هممت به ثانياً
سمعت هاتفاً يقول:
أيجهلُ أننا منهُ قريبُ : وأنّا لا نُضيِّعُ مَن أتانا

يريدُ أبو سعيدَ سؤالَ صبرٍ: كأنّا لا نراهُ ولا يرانا




الحديث السابع عشر
[ يدخلون الجنة بغير حساب]

أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الإمام الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي رضي الله عنه، قال: أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري، قال: أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، قال: أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، قال: أنبأنا مالك بن الخليل أبو غسان، قال: أنبأنا ابن عدي، عن أشعث، عن الحسن، عن عمران بن حصين،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" (1).

جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التطيُّر المرتبة الثالثة، بعد ترك الاكتواء والاسترقاء، وهذه مرتبة الخُلَّص من أهل الانمحاق عنهم وعن كونهم في مراد الله تعالى رحمهم الله ما أقلهم في كل عهد، فإن رتبتهم التحقق بالتوكل على الله تعالى، توكلاً تنطوي فيه الأسباب والمرادات، وأولئك هم العارفون بالله حقا رضي الله عنهم.
يا هذا لو أن العالم فريقان، فريق يروحني بمراوح من نَدّ(1)، وفريق يقرض جسمي بمقارض من نار، لا ازداد هؤلاء عندي ولا نقص هؤلاء، اعلم أن مَن عرف الله حق معرفته، تلاشت همته تحت سرور وحدانيته، ولا شيء من العرش إلى الثرى أعظم من سرور العارف بربه، والجنة بكل ما فيها في جنب سروره بربه أصغر من خردلة، لِما عَلِمَ أنه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، فمن وجده فأي شيء لا يجد، وبأي شيء يشتغل بعده، وهل رؤية غيره إلا من خساسة النفس، ودناءة الهمة، وقلة المعرفة به، وهل يكون لباسٌ أجملُ من لباس الإسلام، أو تاج أجلّ من تاج المعرفة، أو بساط أشرف من بساط الطاعة.
قال الله تعالى: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا)(2).
قال إبراهيم بن أدهم في بعض مناجاته: إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها لا تزن عندي جناح بعوضة بعدما وهبت لي معرفتك، وآنستني بك، وفرَّغتني للتفكر في عظمتك، ووعدتني النظر إلى وجهك، نعم إن أدنى منازل العارف أن الله تعالى لو أدخله النار، وأحاط به العذاب، لم يزدد قلبه إلا حباً وأنساً به وشوقاً إليه.
قال ابن سيرين(3) لو خُيِّرت بين الجنة وركعتين تخيَّرت الركعتين، لأن في الركعتين رضاء الله تعالى، والقرب منه، وفي الجنة هوى النفس، ومحبةُ الناس.


قيل: لما أُلقي الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار و: (قالوا حرِّقوه وانصروا ءالهتكم) (1)
قال: حسبي ربي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
قال تعالى: ( يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)(2).
وروي أن الله تعالى أوحى إليه: يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك، فلا تشغل قلبك بدوني فتنقطع الخُلَّةُ بينك وبيني، لأن الصادق في دعوى خُلَّتي: من إذا أُحرق بالنار لم يتحول قلبه عني إلى غيري إجلالاً لحُرمتي، وذَكَرَ الله تعالى ذلك في كتابه بقوله:
( إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)(3)
فعرف صدقه في التسليم حتى أُلقي في النار.
قال أبو عبد الله بن مقاتل في مناجاته: إلهي لا تدخلني في النار فإنها تصير برداً علي من حبي لك.
قال أيوب السختياني(4): إنما يخاف النار من نسي مولاه فيقال لهم: ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)(5)
مع ثواب أعماله.
قال أبو حفص (6): إني لأخاف على معرفة قوم يكون على جباههم مكتوباً "عتقاء الله" بعد إخراجهم منها، يسألون الله رفعَ تلك العلامة عنهم، ولو كنت أنا لسألته أن يكتب ذلك على جميع أعضائي، ويكفيني فخراً أني من عتقائه، وأنا أقول: إنما الحاصل للمريد في الجنة من الجنة هو الرب تعالى، وقربه ونظره، واستماع كلامه، أما ترى امرأة فرعون إذ قالت
( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة)(7) كما يقال:
الجار قبل الدار.
قال إبراهيم بن أدهم: إني لأستحي أن يكون غاية همتي


مخلوقاً، وقد قال الله تعالى لبعض أنبيائه: من أرادنا لم يرد سوانا.
قال بعض المشايخ: رأيت شاباً في المسجد الحرام، قد أثَّر فيه الضر والجوع، فأدركتني الرحمة عليه، وكان معي مائة دينار في صُرة، فدنوت منه وقلت: يا حبيبي اصرف هذا في بعض حوائجك، فلم يلتفت إليّ، فألححتُ عليه، فقال: يا شيخ هذه حالةٌ لا أبيعها بالجنة وما فيها، وهي دار الجلال ومعدن القرار والبقاء، فكيف أبيعها بثمنٍ بخس.
قال أبو موسى الدبيلي خادم أبي يزيد: سمعت شيخاً ببسطام يقول: رأيت في منامي كأن الله تعالى يقول: كلكم تطلبون مني، غير أبي يزيد فإنه يطلبني، ويريدني وأنا أريده.
قال أبو عبد الله: اتخِذِ اللهَ جليساً وأنيساً، والزم خدمة مولاك تأتك الدنيا وهي راغمة، وتطلبك الآخرة وهي عاشقة، وقال: يا طالب الدنيا دع الدنيا تطلبك، ويا طالب الآخرة، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء قدير؟ قال أبو سعيد الخراز(1): كنت بالموقف، فهممتُ أن أسأل الله شيئاً فهتف بي هاتف: بعد الله تسأل غير الله.
وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد فاضرب بالدنيا وجهَ عشاقها، وبالآخرة وجه طلابها، واستأنس برب العالمين، والسلام. قال أبو عبد الله النسّاج(2): لا تستكثر الجنة للمؤمن، فإنه قد وافى لله تعالى بما هو أكثر قدراً من الجنة وهو المعرفة.
وصلى رجلٌ من العارفين على جنازة فكبَّر خمساً، فقيل له في ذلك فقال: كبرت أربعاً على الميت، وواحدة على الدارين. وحكي أنه قرئ بين يدي أبي يزيد
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)(3)
قال: فأين من يريد المولى؟

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا؟ فقال: بخمسة أشياء، أولها: وجدت الناس صنفين، طالب دنيا، وطالب عقبى، فكنت أنا طالب المولى، والثاني: منذ دخلت الإسلام ما شبعت من طعام الدنيا، والثالث: ما رويت من شراب الدنيا، والرابع: إذا استقبلني عملان، عمل للدنيا، والآخر للعقبى، اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا، والخامس: صحبت النبي عليه الصلاة والسلام، فأحسنتُ صحبته،
فقال له عليّ: هنيئاً لك يا أبا بكر.

الحديث الثامن عشر
[ أدبني ربي ]

أخبرنا ابن العم الولي الصالح السيد سيف الدين عثمان، قال: حدثني أبوك السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنوّر ببغداد، قال: حدثني ابن عمي السيد حسن بن عسلة، قال: حدثني النقيب الجليل السيد يحيى بن ثابت، قال: حدثني أبي السيد ثابت، عن أبيه السيد علي الحازم أبي الفوارس عن أبيه السيد أحمد ابن علي أبي الفضائل، عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي نزيل إشبيلية، عن أبيه السيد أبي القاسم محمد البغدادي نزيل مكة، عن أبيه السيد الحسن القاسم أبي موسى الرئيس، عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي، عن أبيه السيد أحمد الأكبر، عن أبيه السيد موسى، عن أبيه الأمير الكبير السيد إبراهيم المرتضى، عن أخيه الإمام الأعظم قبلة أهل الباطن علي الرضا صاحب طوس، عن أبيه الإمام الشهيد موسى الكاظم، عن أبيه الإمام السعيد جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام زين العابدين علي السَّجّاد، عن أبيه الإمام المظلوم الشهيد السعيد الحسين صاحب كربلاء، عن أبيه أمير المؤمنين يعسوب نحل الموحدين الإمام علي كرم الله وجهه،
عن ابن عمه سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين
نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" أدبني ربي فأحسن تأديبي"

هذا الحديث الشريف مُلزم


بالتحقيق بآدابه صلى الله عليه وسلم، فإن مَن زلَّ عنها هوى ومَن فارقها ضلَّ وغوى، وبها تعرج هِمَمُ المقربين، وتُزهِرُ أسرارُ العارفين، ولا وجه يلتحق به العارف بربه إلا طريق الأدب المحمدي وسُلَّمُ كل هذا: الذكرُ المتواصل.
أي بني، اذكر الله تعالى، واعلم أن الله تعالى أعلى درجة الذكر، وعظَّم رُتبته، ورفع شأنه، وشرَّفه وفضَّله، ثم قسَّمه على اللسان والأركان والجَنان، فينبغي أن يكون الذاكرُ على حذر أن يلتفت إلى الذكر، ويكون شريف الهمة والإرادة، لطيف الفطنة في الإشارة، صحيح النية والإرادة، لا يريد بذكره غيره، ولا يلتمس منه فراغه عنه إلى ما دونه، لأن الوصول إلى الكل تحت الرضا به عن غيره، والحرمان من الكل تحت الاشتغال بغيره، ويجب على الذاكر أن يذكره على غاية من التعظيم والحُرمة، لا على العادة والغفلة، فيصير بذلك محجوباً عن المذكور، عقوبة لترك التعظيم والحُرمة، لأن حفظ الحرمة في الذكر، خير من الذكر، وما من عبد ذكره على التحقيق، إلا نسي في جنب ذكره ما سواه، وكان الله له عِوضاً من كل شيء، وربما يريد العارفُ أن يذكره فيهيج في سرِّه أمواج


التعظيم والهيبة، فيكلُّ لسانه ويطير فؤداه من إجلال الوحدانية، ثم يبدو له شعاع الشوق والمحبة من حجب القلب والألفة، فتنتهي همته إلى سرادقات الألوهية، وميادين الربوبية بإذن الله، فحينئذ يكشف له عما سُتر عن غيره من عجائب غيبه، ولطائف صُنعه، وكمال قدرته، وأنوار قدسه، فعند ذلك يعرف العبد أن الله تعالى يفعل ما يشاء بمن يشاء لمن يشاء متى يشاء كيف شاء، بيده المَنُّ والعطاء والإرادة، لا رادَّ لفضله، ولا مُعقِّب لحكمه، فيشتغل به، ويصير فانياً تحت بقائه، وهذا معنى ما رُوي في بعض الأخبار، أن الله تعالى قال في بعض الكتب: مَن يذكرني ولا ينساني حركتُ قلبه لمحبتي، إذا تكلم لي، وإذا سكت سكت لي(1)
قال الله تعالى: ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله)(2)
وقال يحيى بن معاذ: الذكر أكبر من الجنة، لأن الذكر نصيب الله والجنة نصيب العبد، وفي الذكر رضاء الله، وفي الجنة رضاء العبيد، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله يتجلى للذاكرين عند الذكر وتلاوة القرآن، ولا يرونه لأنه أعز من أن يُرى، وأظهر من أن يخفى، فتفردوا بالله سبحانه، واستأنسوا بذكره، وما نزلت بأحد نازلةٍ إلا وفي كتاب الله لها دليل من الهدى والبيان.
قال أبو عبد الله النساج:
إن لله تعالى في الدنيا جنة، من دخلها كان آمناً

(طوبى لهم وحسن مآب)
قيل: ما هي ؟ قال: الأنس بذكره،
قال الله تعالى في بعض كتبه: أوليائي وأحبائي تنعموا بذكري، واستأنسوا بي، فإني نعم الرب لكم في الدنيا والآخرة.
قيل لأبي بكر الواسطي هل تشتهي طعاماً؟
قال: نعم، قيل: أي شيء؟
قال: لقمة من ذكر الله، بصفاء اليقين، على مائدة المعرفة،
بأنامل حُسن الظن بالله، من جفنة الرضا عن الله سبحانه،
وروي أن الله تعالى قال للخليل عليه الصلاة والسلام:
أتدري لم اتخذتك خليلاً؟ قال: لا.
قال: لأنك لا تُغفل قلبك عني، وعلى كل حالٍ لا أراك تنساني.
لولا أنك أمرتنا بذكرك، فمَن كان يجتري أن يذكرك، إجلالاً وإعظاماً لك سبحانك؟
عجباً للذاكرين، كيف تثبت قلوبهم في أبدانهم عند ذكر عظمتك، وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام:
يا موسى إني لم أقبل صلاة ولا ذكراً إلا ممن يتواضع لعظمتي، ويُلزم قلبه خوفي، ويقطع عمره بذكري، يا موسى إن مَثَله في الناس كمثل الفردوس في الجنان، لا يتغير طعمها، ولا يَيْبس ورقُها، فأجعلُ له عند الخوف أمناً، وعند الظلمة نوراً، وأجيبه قبل أن يدعوني، وأعطيه قبل أن يسألني،
وروى كعب الأحبار(3) أن الله تعالى قال:
من شغله ذكري عن مسـألتي أعطيه أفضل مما أعطي سائلي"(4).

وقال عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: طوبى لمن ذكر الله، ولم يذكر إلا الله، وطوبى لمن يخشى الله ولم يخش إلا الله.
وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال: يا أسفا على يوسف، أوحى الله تعالى إليه: إلى متى تذكرُ يوسف، أيوسف خلقك أو رزقك، أو أعطاك النبوة، فبعزتي لو كنت ذكرتني، واشتغلتَ بي عن ذكر غيري، لفرَّجتُ عنك من ساعتك فعلم يعقوب أنه مخطئ في ذكره يوسف، فأمسك لسانه عن ذكره.
وقالت رابعة البصرية رضي الله عنها: ما أوحش الساعة التي لا أذكرك فيها.
وقال موسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم:
إلهي أقريبٌ أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك
، فقال الله تعالى:
أنا جليس لمن ذكرني، وقريبٌ ممن أنس بي،
أقربُ إليه من حبل الوريد(2).
قيل لذي النون: متى يكون ذكر الله للعبد صافياً؟ قال: إذا كان به عارفاً، وممن دونه متبرئاً. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر الله طعام الروح، والثناء عليه شراب الروح، والحياء منه لباس الروح، وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكره، وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه.
إن الله تعالى قال في الكتب: "مَن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ،
ومن ذكرني من حيث هو، ذكرته من
حيث أنا"(1)
وقال: إن الخلائق صاحوا من إبليس، وإن إبليس صاح من الذاكرين، وتلا
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(2). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من مؤمن إلا وعلى قلبه شيطان، إذا ذكر الله خنس(3)، وإذا نسي الله وسوس، ذِكرُ الله شفاءٌ لا يضر معه داء، وذكر الناس داء لا ينفع مع دواء، فاجعل ذكر الله قِبلة همك(4)، وإضاءة مسجد فكرتك، واعلم أن حقيقة الاستئناس بذكر الحبيب هو نسيان غيره.
من شغله ذكر الله تعالى فَنِيَ عن ذكر ما سواه، وصار مدهوشاً تحت لطائف صنعه، وتلاشت كُليته تحت جمال حسن غايته، واستغرق في بحار ذكر امتنانه:
للناس عيدان معدودان في سنةٍ وللمريدِ جميعُ العصرِ أعيادُ
فالذكرُ عادتُهُ، والحمدُ راحتُهُ والقلبُ في ملكوتِ الربِّ أوّادُ(5)





الحديث التاسع عشر
[ حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام]

أخبرنا الفقيه الصالح بندار بن بختيار الواسطي، قال: أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد المهدي الهاشمي، قال أنبأنا أبو عثمان إسماعيل بن محمد، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن عبدالله الضبي، قال أنبأنا سليمان بن أحمد، قال: أنبأنا إدريس بن جعفر العطار، قال: أنبأنا يزيد بن هارون بن محمد، عن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة ابن عبدالرحمن، عن عبدالله بن عمرو، قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فقال: " يا عبدالله بن عمرو، ألم أخبر أنك تكلّف قيام الليل وصيام النهار؟ قلت: إني أفعل، قال: " إن حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، الحسنة بعشر أمثالها، فكأنك صمت الدهر كله"(1).
ففي هذا الحديث الشريف أسرار، منها البشارة بتواصل نور الأعمال، وبنور الأعمال من دون انقطاع، وإن تباعدت الأوقات، ومنها مضاعفة ثواب العمل لهذه الأمة، الحسنة بعشر أمثالها، لتنشط قلوبهم لعمل الخير، ومنها الأمر بعدم التكلف، الذي يُفضي بالعبد إلى السأم والملل، ومنها لزوم التذكر، حتى لا تطمّ القلوبَ الغفلةُ، ومنها الإيمان القطعي بوعد الله وحسن كرمه، وكل هذه الخصال خصال العارفين، الذين انقطعوا عن كل الهموم الدنيوية والأخروية، وصار همهم ربهم ومن كان همه ربه فلا هم له.

قال يحيى بن معاذ في مناجاته: إلهي إن عرفتك فأنت الذي قد هديتني، وإن طلبتُكَ فأنت الذي أردتني، وإن أجبتك فأنت الذي اخترتني، وإن أطعتك فأنت الذي وفقتني، وإن أنبت إليك فأنت الذي آويتني، وإن الله تعالى لا يَكِلُ العارفين إلى أنفسهم، ولا إلى طاعاتهم، ولا إلى ذكرهم، بفضله ورحمته، بل يكلؤهم بأكاليل شفقته، ويمطر عليهم أمطار رحمته، من سحائب فضله وعنايته.
ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف لي أن أؤدي شكر نعمك، ولك عليّ في كل شعرة نعمتان؟ فقال له: يا موسى، إذا عرفتَ أنك عاجز عن شكري فقد شكرتني، وقيل:
إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام:
اشكر نعمتي عليك. فقال: إلهي كيف لي أن أشكرك
وشكري لك على النعم أعظم نعمة علي؟
فأوحى الله تعالى إليه:
إذا علمت ذلك فأنت أشكر العباد لي.
وقال محمد بن السمّاك(1) اذكُر مَن كان ذكره لك قبل ذكرك، وحبه قبل حبك، وما ذكرته إلا بذكره لك، وما أحببته إلا بحبه لك. وقال أبو بكر الواسطي: من نسى ذكر الله تعالى كان مستدرجاً.
واعلم أن أدنى أوصاف العارف، عيش القلب مع الله بلا علاقة، وذلك من ذكر الله إياه، وذلك بيِّنٌ في قول الله تعالى
(ولذكر الله أكبر)(2)
وقيل في قوله تعالى: ( وقليلٌ من عبادي الشكور)(3)،
أي قليل من يرى مِنَّتي عليه عند شكره لي.
ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال:
إلهي كيف استطاع آدم أن يشكر نعمتك، إذ خلقته بيديك، ونفخت فيه من روحك، وأسكنته جنتك، وأمرت الملائكة فسجدوا له؟
فقال الله: يا موسى، علم آدم ذلك مني فحمدني عليه.
فمن أطاعه فبتوفيقه أطاعه فله المنة، ومن عصاه فبمقدوره عصاه، فله الحجة عليه، فقد سبق فضله لمن أطاعه قبل طاعته، وقد سبق عدله لمن عصاه قبل معصيته إياه، لأنه الفعّال لما يريد.
وروي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال:
إلهي لولا أنت كيف كنت أعرف مَن أنت؟
وقيل لأبي عبدالله: ما لنا نحب المدح والثناء؟
فقال: لنسيان امتنان الله عليكم، وحسن عنايته التي سبقت منه لكم، فمن نسي المنة، وجحد النعمة، قُلبت له النعمة نقمة
.
يا بنيّ، إن الله تعالى أعطاك المعرفة، ووفّقك لطاعته من غير إحسان سبق منك، ومن غير شفاعة كانت لأجلك، فينبغي أن تشتغل بذكره وخدمته، من غير طلب عِوَض ومكافأة منه، فأهل الذكر أصناف مختلفة، فمنهم مَن يذكر على جهة مِنّة الإسلام، ومنهم على جهة السُنة والجماعة، ومنهم مَن يذكره على جهة منة ذكره، حتى يصير قلبه والهاً(1)، ولسانه كليلاً، وعقله هائماً ويصير في عظمته مبهوتاً، ويتيه في كرمه، ويُدهَش في محبته، لما علم أن الأعمال لا تقوم إلا به، والذكر على جهتين، ذكر يتولد منه الخوف والخشية، وذكر يتولد منه الشوق والمحبة، فأما ما يُنتج الخوف والخشية، فهو ذكر مَن يذكر الله مع نفسه، ويرى ذكر الله له سبب ذكر الله تعالى، ويعلم أنه بذكر الله يصل إلى ذكره إياه، وأما الأخر فهو الذكر الذي تذكّر ذكر الله له في الأزل، حيث لم يكن موجوداً، إلى أن يصير في الدنيا مفقوداً، ثم إلى الأبد، فوجد ذكر الله له سابقاً أزلياً، خالداً أبدياً، وذكره مكدراً بالشهوات، ممزوجاً بالغفلات، فشتان بين من يدخل على الله برؤية ذكره، وبين من يدخل على الله برؤية فضله ومنته، واعلم أن ذكر العبد لله تعالى، في إضافة ذكر الله للعبد، كالغبار تحت الأمطار.



بذكرِكَ تحيا مُهجتي يا مؤمِّلي: وذكرُكَ لي من قبل ذكريَ أكبرُ


مننتَ بطَولٍ لا أقومُ بشكرِهِ فأيَّ أياديكَ الجزيلة أشكُرُ؟)






عدل سابقا من قبل سيداحمدالعطارالرفاعى في الثلاثاء 17 يوليو 2012, 6:02 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالثلاثاء 17 يوليو 2012, 4:01 am

الحديث العشرون
[ السُّنَنُ الرواتب]

أخبرنا الشيخ الحجة الثقة العارف أبو بكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي، قال أنبأنا أبو القسم طلحة الكتاني، قال: أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عثمان الآدمي، قال: حدثنا أحمد بن ماهان السمسار، قال أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، قال: سمعت عمر بن أوس يحدث عتبة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن صلى اثنتي عشرة ركعة تطوعاً كل يوم غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة"(1).
هذا الحديث الشريف يحث على ملازمة النوافل، فإنها من المقربات إلى الله تعالى، وهي زاد العارفين في طريقهم إليه سبحانه، وشأن المتجردين لجنابه جلَّت قدرته.

أي بني، اعلم أن مَن تجرد بسِرِّهِ عن الكُل، وتفرَّد بسر السر الفَرد، كشف له الغطاء، واستبانت له البراهين، عند مشاهدة نور الحق سبحانه، وهنالك يسقيه الله بكأس محبته، حتى يُسكره به عن غيره ويُزيل عنه التعب والنَصَب، ويصير سكوته ذكراً، وأنفاسه تسبيحاً، وكلامه تقديساً، ونومه صلاة، ولا يزال العبد يركب بسره مركب المعرفة، حتى يتصل بالمعروف، فإذا اتصل بالمعروف، بقي معه إلى الأبد، من غير أن يلتفت منه إلى ما سواه، واعلم أن مَثَلَ القلب كالقصر، والمعرفة فيه كالسلطان، والعقلُ أميرٌ على الأركان، له تبعٌ وأعوان، واللسان كالترجمان، والسر من خزائن الرحمن، ولا بد لكل واحد منها من الاستقامة في مواضعه، ودوران كلها على استقامة السر مع الحق، فإذا استقام السر استقامت المعرفة، فيستقيم العقل، وإذا استقام العقل، استقام القلب، وإذا استقام القلب، استقامت النفس، وإذا استقامت النفس، استقامت الأحوال، فالسر مُنَوَّرٌ بنور الجمال والجلال، والعقل منوَّر بنور اليقظة والاعتبار، والقلب منوَّر بنور الخشية والأفكار، والنفس منورة بنور الرياضة والانزجار، فالسر بحر من بحور العطايا، وأمواج الهمة فيه لا يُحصى عددها، ولا ينقطع مددها، وإن استقامة السر مع الحق، هي الدوام على بساط المشاهدة، مع فقد رؤية الاستقامة، واعلم أن صراط الاستقامة السُّرادق، من صراط الآخرة، والمرورُ على جسرها أصعب من المرور على جسر الآخرة، وأن عالم الأسرار غيور، لا يحب أن يكون في قلب العبد حب أو ذِكر لغيره، قال الله تعالى في بعض كتبه: " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي، جعلت لذته وهمته في محبتي، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه"(1) ودخل رجلٌ على سري السقطي (2) رضي الله عنه فقال له: أي شيء أقرب إلى الله، ليتقرب به العبد إلى الله؟

فبكى السري، فقال: أمثلك يسأل عن هذا؟ إن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه، أن يطلع الله على قلبك وأنت لا تريد من الدارين غيره.
وقال إبراهيم بن أدهم: غاية همتي ومرادي من الله تعالى، أن يجعل لي الميل إليه، فلا أرى شيئاً دونه، ولا أشتغل بأحد سواه، ثم لا أبالي إلى التراب صيَّرني، أم إلى العدم رجعني. وقيل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: بأي شيء وجدت الخُلة؟ فقال: بانقطاعي إلى ربي، واختياري إياه على ما سواه، وبأني ما أكلتُ قط إلا مع الضيف.
وقالت رابعة البصرية: إلهي همتي ومرادي في الدنيا من الدنيا ذكرك، وفي الآخرة من الآخرة رؤيتك، ثم افعل بينهما ما شئتَ. وقال أبو يزيد البسطامي: رفعتُ السر إلى مواصلة الحق، فطار بأجنحة المعرفة، بنور الفطنة، في هواء الوحدانية، فاستقبلتهُ النفس وقالت: أين تذهب، أنا نفسُكَ، لا بد لك مني، فلم يلتفت السر إليها، ثم استقبلهُ الخَلقُ، وقالوا أين تذهب؛ نحن رفقاؤك وندماؤك، ولابد لك منا ومن معاونتنا إياك، فلم يلتفت إليهم، ثم استقبلته الجنة بكل ما فيها، وقالت: أين تذهب؟ فإني لك، ولابد لك مني؟ فلم يلتفت إليها، ثم استقبلته العطايا والمواهب والكرامات كذلك، حتى جاوز المملكة، وبلغ سُرادقات الفردانية، وجاوز الكلية والأنانية حتى وصل إلى الحق، وهو المطلوب. وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال في بعض مناجاته: يا رب عجبتُ ممن يجدك ثم يرجع عنك. فقال الله تعالى: يا موسى، إن مَن وجدني لا يرجع عني، وما رجع من رجع إلا عن الطريق.
وقال أبو العباس بن عطاء (1) متى ظهرت على عبدٍ الآخرة، فنِيَت في جنبها الدنيا، وبقي العبد مع دار البقاء، ومتى ظهرت على العبد مشاهدةُ الحق تعالى، فني


عنده ما دون الحق، وبقي العبد مع الحق.
وقال رجل لأبي يزيد: بلغني أن عندك اسم الله الأعظم، أُحِب أن تعلمني ذلك، فقال أبو يزيد: ليس لاسم الله حدٌّ محدود، ولكنه فراغُ قلبك لوحدانيته، وترك الالتفات منه إلى غيره، فإذا كنتَ كذلك، فخذ أي اسمٍ شئت تسير به من المشرق إلى المغرب في ساعةٍ ثم تجيء.
قال ذو النون: كنتُ حاجاً فإذا بشاب يقول: إلهي قد اجتمع وفدُك، وأنت أعلم، فما أنتَ صانعٌ بهم؟ فسمعتُ صوتاً يقول: وفدي كثير، وطلاّبي قليل وسئل بعضهم: كم بين الحق والعبد؟ قال: أربعة أقدام، يرفع قدماً من الدنيا، وقدماً من الخَلق، وقدماً من النفس، وقدماً من الآخرة، فإذا هو. ثم قال السري: مَن قام على طاعة الله بغير علاقة، سقاه الله شَربةً من عين محبته، وبلِّغهُ إلى مقعد صدق.
قال علي رضي الله عنه: العارف إذا خرج من الدنيا لم يجده السائق ولا الشهيد في القيامة، ولا رضوان في الجنة، ولا مالك النار في النار. قيل: وأين يوجد؟ قال: في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إذا قام من قبره لا يقول: أين أهلي وولدي، ولا أين جبريل وميكائيل والجنة والثواب، ولكن يقول أين حبيبي وأنيسي.
قلوب العارفين لها عيونٌ
وألسنةٌ بسِرٍّ قد تناجي
وأجنحةٌ تطيرُ بغير ريشٍ
فترعى في رياض القُدسِ طوراً
عبادٌ قاصدون إليه حتى
ترى ما لا يراهُ الناظرونا
تدقُّ عن الكرامِ الكاتبينا
فتأوي عِندَ رب العالمينا
وتشربُ من بحار المرسَلينا
دنوا منه وصاروا واصلينا



الحديث الواحد والعشرون
[ صنائع المعروف]

أخبرنا الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عبدالملك بن الحسين بن ميمون بن الحسين الحربوني الواسطي قدس الله سره قال: أنبأنا الشيخ الثقة عبدالحق بن عبدالخالق ابن أحمد، أقول: وبهذا السند عن عبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد، بزيادة لفظة" ابن يوسف" بعد أحمد، أجازنا كتابة مولانا الخليفة المفترض الطاعة في الأرض، القائم لله بإحياء السنة والفرض، أبو العباس الناصر لدين الله العباسي(1) الهاشمي أعز الله به كلمة الدين والمسلمين، وأيد باقتداره شريعة سيد المرسلين، عليه صلوات رب العالمين، وعبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد بن يوسف المتقدم ذكره، قال أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبدالرزاق قراءة، قال: أنبأنا علي بن أحمد بن علي، قال: أنبأنا عمي الحسن بن علي. قال: محمد بن مرزوق: وقرأتُ علي أبي نصر محمد بن سلمان، أخبركم ذو النون بن محمد بن عامر فأقر به، قال: أنبأنا أبو أحمد الحسن بن عبدالله بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن هارون، قال: أنبأنا محمد بن العباس الننسي، قال: أنبأنا عمرو بن أبي سلمة، قال: حدثنا صدقة، عن الأصبغ، عن ابن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صلة الرحم تزيد العمر وتنفي الفقر" (2).

وفي هذا الحديث الشريف من مكارم الأخلاق، ما يُصعِّد همة العارف إلى حضرة ربه، فإن أُس(1) المعرفة بالله مكارم الأخلاق، وأما سوء الأخلاق فهو والعياذ بالله من انحجاب السر عن الله تعالى.
أي بني، اعلم أن أعظم مصائب السر حجابه عن الله تعالى،، فكل من حلت به هذه المصيبة، فقد تلاشت سائر مصائبه في جنبها، فإن المحب سكران، والسكران لا يجد حالة سكره وجع المصيبة، فإذا أفاق وجد الألم، ومصيبة المحجوب عن الله لا تنجبر أبداً، إلا بتجريد السر عن كل ما دون الله تعالى، ولا وعيد في القرآن أصعب من قوله تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم)(2) فكم من طاعة حجبت صاحبها عن المطاع، وكم من نعمة قطعت صاحبها من المنعم، ورب نائم رُزق الانتباه بعد رقدته، ومنتبه نام بعد طول الانتباه، ورب فاجر رزق الولاية، وبلغ منازل الأبرار، وزاهد سقط عن ولايته، وسلك مسالك الفجار، وكم من عامل قد حجبته رؤية أعماله، عن رؤية امتنان ربه، حتى عمي بصره فصار مُبعداً وهو يحسب أنه واصل، ولا مصيبة أشد على العارف من الحجاب، ولو طرفة عين، وأعظم عقوبة على العبد من الله البعد والحجاب.
وحكي أن رجلاً من العُبّاد قال: إلهي كم أعصيك ولا تعاقبني ! فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان أن قل به: إلى كم أعاقبك وأنت لا تدري، ألم أحجبك عن


لطائف أُنسي، ألم أخرج عن قلبك حلاوة مناجاتي؟ وقال: أبو موسى خادم أبي يزيد: دخل الشيخ مدينة فتبعه خلقٌ كثير، فلما نظر أبو يزيد إليهم وإلى ازدحامهم نحوه، قال: اللهم إني أعوذ بك أن تحجبني عنك بهم، وأعوذ بك أن تحجبهم عنك بي. رحمه الله ما أكثر إنصافه، ما أصدقه بربه، ما أشفقه على إخوانه المسلمين، أراد لهم الخير وصحة النظر، كما أراد لنفسه، تنبه يا من يريد اجتماع الناس عليه، واعتقادهم به، كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس، وكم أذهبت من دين، اللهم سلم، اللهم سلم.
اعلم أن الناس أربعة أصناف، رجل جعل الله قلبه بصيراً ينظر بنور اليقين إلى لطائف صنعه وكمال قدرته، ورجل جعل الله عقله بصيراً ينظر بنور الفطنة إلى الوعد والوعيد، ورجل جعل الله سره بصيراً ينظر في كل الأوقات بنور المعرفة إلى الله تعالى، ورجل جعله الله مكفوفاً لا يبصر شيئاً، فهو مظهر قوله تعالى: ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً).(1)
واعلم أن الكفار محجوبون بظلمة الضلالة عن نور الهدى، وأهل المعصية محجوبون بظلمة الغفلة عن أنور التقوى، وأهل الطاعة محجوبون بظلمة رؤية الطاعة عن أنوار رؤية التوفيق وعناية المولى، فإذا رفع الله عنهم هذه الحُجُب، نظروا بأعين النور إلى النور، فعند ذلك يُحجبون عن غيره به، فكل من نظر إلى حركاته وأفعاله في طاعة الله، صار محجوباً عن وليها مفلساً، ومن نظر إلى وليها صار محجوباً به عن رؤيتها، لأنه إذا رأى عجزه عن تحقيقها وإتمامها، صار مستغرقاً في امتنانه، وربما يحجب برؤية العباد عن وجدان حلاوتها وربما يحجب برؤية وجدان الحلاوة عن صحة الإدارة، وربما يحجب برؤية المنة عن المنان سبحانه، قال النساج: من رأى نفسه عند الطاعة لم يتخلص من العُجب، ومن رأى الخلق لم يتخلص من الرياء، ومن رأي


الطاعة لم يتخلص من الغرور ومن رأي الثواب لم يتخلص من الحجاب، ومن رأي الرب تعالى فذلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال بكر بن عبدالله (1) من اشتغل بطرائف الحكمة ودقائقها، صار محجوباً عن حقائقها، وما أعرف معصية أضر بصاحبها من نسيان الرب، وعلاقة القلب بغيره. وقال: كل هم وذكر لغير الله تعالى فهو حجاب بينك وبين الله، وفي الخير: (رُبَّ حسنةٍ يعملها الرجل لا يكون له سيئة أضر عليه منها، ورب سيئة يعملها الرجل لا يكون له حسنة أنفع له منها)، قيل في معناه: لأن الحسنة محمودة، والسيئة مذمومة، فمادام العبد في الحسنة مع رؤية الحسنة فهو في ميدان الدلال والافتخار، وما دام العبد في السيئة مع رؤية السيئة فهو في ميدان الانكسار والافتقار، وحال العبد في وقت الافتقار أحسن(2).
قال الإمام أبو بكر الصديق رضي الله عنه: اللهم إني أعوذ بك من الشرك الخفي، قالت رابعة رضي الله عنها: حجبت الدنيا قلوب أهلها عن الله، فلو تركوها لجالت في ملكوته، ثم رجعت بطرائف الفوائد.
قيل لسيدي منصور الرباني رضي الله عنه: بأي شيء يعرف العبد أنه غير محجوب عن


ربه؟ قال: إذا طلبه ولو يطلب منه، وأراده ولم يرد منه، وأن لا يختار على اختياره شيئاً، وإن اختار له النار، وكل مَن ليس في قلبه سلطان الهيبة، ونار المحبة، وأُنس الصحبة، فهو محجوب. وقال: كفاك من المعرفة أن تعلم أن الله مطلع عليك، وكفاك من العبادة أن تعلم أن الله مستغنٍ عنك، وكفاك من المحبة أن تعلم أن حبه سابقٌ على حبك، وكفاك من الذكر أن تعلم أن ذكره متقدم على ذكرك. القلوب إذا قعدت على بساط الهيبة، زالت عنها الشهوات، وإذا قعدت على بساط المعرفة، زالت عنها الغفلات، وإذا قعدت على صدق الفردانية بالفرد للفرد فذلك مقعد الصدق.

الحديث الثاني والعشرون
[ لا تحاسدوا..]

أخبرنا الشيخ الثقة العارف بالله تعالى عبدالملك بن الحسين الحربوني قدس الله روحه، قال: أخبرنا أبو مطيع محمد بن عبدالواحد الأديب، قال: أنبأنا أبو بكر عبدالله بن أحمد بن العباس الباطرقاني، قال: أنبأنا سليم بن أحمد الطبراني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الديري، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا وكونوا إخواناً كما أمركم الله تعالى"(1).
هذا الحديث الشريف تضمَّن من أسرار المعرفة بالله العجائب، فإنه أمر بالتخلي عن الصفة الإبليسية، وهي الحسد، ثم بالتجرد من الصفة النفسانية، وهي البغض لغير الله تعالى، ثم بالترفع عن الصفة السافلة الهوائية، وهي التجسس، ثم بعد أن أكمل درجات التنقية، أمر برؤية عدم الفَرقية بين المرء وبين إخوانه، وأن هذا من أمر الله تعالى، وإذا كملت للعبد هذه الخصال، فقد أحكم شأن المعرفة بالله، ومن هذا السر قول سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: "مَن عرف نفسه فقد عرف ربه"(2).
أي بني، اعلم أن العبد بين الله وخلقه، إن التفتَ منه إلى الخَلق تجرد عن الحق، وصار متروكاً محروماً مخذولاً، وإن التفت إلى الله عن الخلق، قرَّبه الله


وأدناه، وأوصله إلى قُربه، فإن الله تعالى إذا أحب عبداً غار عليه قَدْرَ قربه منه، وحبه له، ولم يحتمل منه الالتفات إلى شيءٍ سواه، فإنه إن نظر إلى شيءٍ دونه عذَّبَهُ الله بذلك الشيء، وجعله وبالاً عليه، أما ترى أن إبليس لعنه الله نظر إلى نفسه، وقال عن آدم: أنا خيرٌ منه، فلعنه وطرده، وكذلك نظر فرعون إلى ملكه وقال: أليس لي ملك مصر فغرَّقه، وقارون نظر إلى ماله وقال: إنما أوتيته على علمٍ عندي، فخسف الله به وبداره الأرض، وكذلك الملائكة، نظروا إلى تسبيحهم وتقديسهم حيث قالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، فابتلاهم الله تعالى بالسجدة لآدم وكذلك كل مَن قال أنا يقول الله تعالى لا بل أنا، ثم يردّه إلى أسفل السافلين، وكل مَن يقول: أنتَ الله، يرفعه إلى أعلى عِلّيين.
والالتفاتُ على وجهين، التفات العين، والتفات القلب، فالتفاتُ العين مثل ما قال الله تعالى لمحمد حبيبه عليه الصلاة والسلام: (ولا تمُدَّنَ عينيك إلى ما متعنا به) (1) الآية، ثم مَنَّ عليه لمّا عصمه حيث قال تعالى: ( ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركنُ إليهم شيئاً قليلاً)(2)، ثم مدحه بترك الالتفات إلى ما سواه، في قوله تعالى: (ما زاغ البصرُ وما طغى)(3)، ثم أورثه ذلك الترك الكُلّي أن رُفِعَ له الحجاب، حتى رأى ما رأى في قوله تعالى: (ولقد راءهُ نزلةً أخرى)(4).
وإن موسى عليه الصلاة والسلام: ( قال ربي أرني أنظر إليك)(5) قال: انظر إلى الجبل، ولن تراني بعد أن نظرتَ إلى غيري.
كان بعض العارفين يطوف حول الكعبة، فناداه واحد، فخطر بباله أن يلتفت إليه، فسمع هاتفاً يقول: ليس مِنّا مَن التفتَ إلى غيرنا.
وحُكي أن آخر كان يطوف حول الكعبة، فنظر إلى امرأة، فظهرت يدٌ من


الهواء وفقأت عينه، ثم نودي نظرتَ بعينك إلى دوننا ففقأناها ولو نظرتَ بقلبك إلى غيرنا لكويناه.
وقال ذو النون: مَن نظر من توحيده إلى نفسه لم يُنجِه التوحيد من النار، ومَن التفتَ من الصلاة إلى غيرها فقط سقط عن درجة المصلين، ومَن التفت من وقته إلى وقته ذهب عنه الوقت وهو لا يشعر، وفي الخبر: " إذا التفتَ العبدُ في الصلاة، يقول الله: عبدي تلتفتُ إلى مَن هو خير لك مني؟ أقبل ولا تُعرض بوجهك عني فإني إذاً أعرضُ عنك" (1).
قال النبي عليه الصلاة والسلام: " أتاني جبريل بمفاتيح خزائن الدنيا، فلم ألتفت إليها ولم أقبلها" (2) قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ قال: أصبحتُ وقد مَنَعَ الكونين عني، ومنعني أن أنظر إليهما.
وقال العارف السقطي رضي الله عنه: كنتُ في طلب صديقٍ لي ثلاثين سنة فلم أظفر


به، فمررتُ يوماً في بعض الجبال، فإذا هو قائمٌ على صخرة، فدنوت منه وأخذت ذيله، فقال، خل عني يا سري، فإن الحق غيور، فلا يراك تأنس بغيره، فتسقط من عينه.
وحكي أن رابعة كانت في طريق مكة فأقبل إليها رجل وقال: يا هذه كُلّي بكُلِّكِ مشغول، فقالت: إن كنتَ صادقاً فكُلّي لكُلِّكَ مبذول، إلا أن لي أختاً أحسن مني وهي وراءك، فالتفت الرجل فلطمته رابعة على وجهه، وقالت: إليك عني يا بطّال، ادعيتَ محبتنا ثم نظرتَ إلى غيرنا، رأيتك من بعيد، فقلتُ: وجدتُ عارفاً، فلما تكلمت قلت: وجدت عارفاً، فلما جربتك وجدتك كذاباً، ما رأيت معك صفاوة العارفين ومروءتهم، ولا طريقة العاشقين وصيانتهم، فصاح الرجل، وجعل التراب على رأسه، وقال: ادعيتُ محبة مخلوق فأعرضتُ عنه، فجاءت اللطمة على وجهي، فأخاف أن أدعي محبة الخالق، فإذا أعرضت بقلبي أن تكون اللطمة على قلبي.
وأما الالتفات بالقلب، فقد حُكي أنه كان لفتح الموصلي (1) صبي، فيوماً من الأيام عانقه وقبّله فنودي من الهواء: يا فتح ادعيت محبتنا وفي قلبك حب غيرنا، فصاح صيحةً خرَّ مغشياً عليه.
ونظرت رابعة البصرية إلى رباح القيسي (2) وهو يُقبِّل صبياً من أهله، فقالت: أتحبه؟ قال: نعم، قالت: ما كنت حسبت أن في قلبك موضعاً فارغاً لمحبة غيره، ففزع القيسي فزعاً شديداً حتى غُشي عليه، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه. قال صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن خليلي الله(3).

وحُكي أن داود عليه الصلاة والسلام استقبله رجل في بعض سياحاته، فقال: أين تريد؟ قال: استوحشت عن الناس، واستأنست بالله. فقال له الرجل: هذا من قِبَلِكَ أم من قِبَلَ الله؟ قال: فسقط داود مغشياً عليه، ثم أفاق وقال: نبهك الله كما نبهتني.
وقال بعضهم: إن الله تعالى أمر قوم موسى بقطع رؤوسهم حين سجدوا للعجل، بعد أن سجدوا لله تعالى، فقال: رأسٌ سجد لي ثم سجد لغيري فلا يصلح لي، فكذلك القلب.
وبلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام قال: أوتيت ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وهممتُ بما همَّ به الناس وما لم يهموا ، فوجدت الأشياء كلها لله، والأمور كلها بيد الله والحاصل من الدارين وما فيهما هو لله، فلا ينبغي لمن ادعى محبته، أن يكون في قلبه حب لغيره، قالت رابعة:
يا حبيبَ القلوبِ مَن لي سواكا
يا حبيبي وصفوتي ورجائي
يا أنيسي ومُنيتي ومُرادي
إرحم اليومَ مُذنباً قد أتاكا(1)
كذب القلبُ إن أحَبَّ سواكا
طال شوقي متى يكون لقاكا؟



الحديث الثالث والعشرون
[ خيركم من تعلم القرآن وعلمه]

أخبرنا شيخنا الشيخ الكبير العارف بالله تعالى القاضي المُقري أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبو الحسين عاصم بن الحسن بن المقري، قال: حدثنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد، قال: أنبأنا مهدي بن إسماعيل بن محمد الصفار، قال: أنبأنا محمد بن عبيدالله المناوي، قال: أنبأنا شبابة يعني ابن سوار، قال: أخبرنا شعبة ابن علقمة بن مزيد، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(1). هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن تعلم القرآن وعلمه، لما في القرآن العظيم من بالغ الحِكَم، وغامض السر، وخطير الشأن، وهو حبل الله الأعظم، به يهتدي المهتدون، ويصل الواصلون، وهو خُلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب، وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة، وما المعرفة التي لم ترجع إليه، ما هي إلا زورٌ وضلالة ، ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم، فقد صار عارفاً، وانكشفت له الأسرار الربانية، المُلكية والملكوتية، ومتى صار عارفاً حَنَّ وأنَّ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق ومن كل فن، وكل الطرق والفنون في القرآن العظيم، والعارفون هم الراسخون بالعلم يقولون آمنا به، وإليه منتهى سير هِمَمِهِم، وعنه يصدرون، وبه


يهيمون، ومنه يأخذون، ولذلك يقال فيهم: ندماء الحق، وبهذا السر يفرِّقون بين الباطل والحق.
أي بني، اعلم أن الله تعالى ربما يَزِينُ أعداءه بلباس أوليائه وأصفيائه، حتى إنهم يغترون بصفاء الأوقات، ويحسبون أنهم من أهل ولايته، فهذا من الله لهم استدراج، وربما يزينهم بالعز والجاه والرياسة والمنزلة عند الناس، حتى يغتروا بثناء الناس ومحمدتهم، ويُحسبوا من أهل فضله، فهذا أيضاً من الله استدراج لهم، وكذلك ربما يزينهم بأنواع لطائف الحكمة، فيغترون بحسن بلاغتهم، وكمال فهمهم وفطنتهم، ويحسبون أنهم أحاطوا بكل حقيقةٍ علماً، فهذا لهم من الله استدراج، وربما يزينهم بلباس النعمة، ويغرقهم في أنواع النعم، فيغترون بحسن تجملهم، وطيب عيشهم، ويحسبون أنهم علي شيء من الله فهذا لهم من الله استدراج، ولا يتركهم حتى يردهم إلى حقيقة معلومة، قال سبحانه: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون)(1) فهذا ما كدر عيش المريدين في دار الدنيا، حتى دام كمدهم، واصفرت ألوانهم، وذابت نفوسهم، ودهشت عقولهم، وطارت أفئدتهم، وانشقت مراراتهم، وفقدوا من الخلائق، وواجب على كل حال ذي عقل ومعرفة أن يحذَر مولاه، كما حذّر نفسَه بقوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)(2) وكما قال: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن لا يسكن اضطرابه، ولا تأمن روعته، حتى يخلف جسر جهنم" (4)، إلا أن الله تعالى غيَّب مكره في حِلمه، وخداعه في لطفه، وعدلَه في كرمه، وخِذلانه في أنواع نِعمه، وسخطه في جميل سَترِه، وقطيعته في إمهاله، فينبغي


للعبد أن لا يعتمد حسن أوقاته، وكثرة حسناته، فكم من أحد تراه في زي المريدين، وهو في علم الله من المطرودين، ولا يشعر أن الله تعالى ربما يزين عدوه بلباس أوليائه ثم يرده آخر الأمر إلى بُعده، وربما يكسو وليّه لباس الأعداء، ثم يردّه آخر الأمر إلى حقائق كرمه، لأنه هو يبديء ويعيد، يعني: يبديء على أوليائه صفات أعدائه، وعلى أعدائه صفات أوليائه، ثم يعيدهم إلى حقائق معلومة، وهو الفعّال لما يريد، بإظهار فضله في أهل عدله، وإظهار عدله في أهل فضله، ألا ترى أن الله تعالى زيَّن إبليس بزينة عصمته، وهو في سابق علمه من أهل اللعنة، ستر عليه ما سبق منه إليه، حتى أظهر أمره في العاقبة، وكذلك زيَّن "بلعام" (1) بأنوار ولايته، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه، وأغرق قارون في بحار نعمته، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه. لا يغرنك بالله أربعة أشياء: إظهاره لك ما تعلم، وستره عليك بما قد عملت، وزيادته لك فيما لم تشكره، وإعطاؤه إياك ما لم تسأله، فإنه ربما أراد الله تنبيهاً لك أو استدراجاً.
وقال يوسف بن الحسين (2) من رأى صنع الربوبية عند إقامة العبودية انقطع عن نفسه، واعتصم بربه، وفوض أمره إليه، فحيئنذ يسلم من آفات الاستدراج.
وكان يحيى بن معاذ يقول: يا معشر المستورين بالنِّعم والعِصَم، ولا تغتروا فإن تحتها آفات النقم، لا تغتروا بعمارة الأوقات، فإن تحتها غوامض الآفات، ولا تغتروا بصفات العبودية، فإن فيها نسيان الربوبية، والأمر كما قال: فيا رُبَّ مستدرَجٍ بالإحسان إليه، ويا رُبَّ مغترٍّ بالثناء عليه، ويا رُبَّ مفتونٍ بالنعم عليه ويا رب مستهلك بالستر عليه، فمن لم يكن باطنه في ملازمة الحق تعالى عينَ ظاهره كان



شكه أغلب من يقينه، وإن كان ظاهره يدل على أوصاف الموقنين، وفقدان أنوار الباطن من رؤية حركات الظاهر، والغفلة عن غوامض آفات الاستدراج، من رؤية صفاء العبودية(1)، فليس للموفَّق أن يعتمد، ولا للمخذول أن ييئس، واستدراج أهل الذنوب الركون إليها، والإصرار على الإعراض عن الله سبحانه، واستدراج أهل العلم طلب الجاه والمنزلة عند الخلق، واستدراج أهل الاجتهاد الاستكثار والإعجاب، واستدراج المريدين تطلعهم إلى العطايا والكرامات، وسكونهم إليها، واستدراج العارفين استغناؤهم بالمعرفة دون المعروف حتى جعلوا لها حداً وغاية ونهاية، وظنوا أنهم قد أحاطوا بها، فكل من كانت منزلته أرفع، كان استدراجه أعظم وأدق، كم من مُذكِّرٍ لله ناسٍ لله، وكم من مخوِّفٍ بالله جريءٌ على الله، وكم داعٍ إلى الله بعيدٌ من الله، وكم من تالٍ كتاب الله منسلخٌ من آيات الله.
وقال أبو سعيد الخراز (2) لو كنتَ تركتَ الدنيا وافتخرتَ بتركها، فالفخرُ أعظم من إمساكها، ولو تركتَ عيوبَ النفس وأعجبتَ بتركها، فالعُجبُ عيبه أكبر، ولو جهدتَ(3) وتعلقتَ بجهدك، فتعلقك أعظم الاستراحة، ولو خفتَ وأمنتَ على أنك خفتَ، فالأمن من الخوف أكبر، ثم قال: رؤية القرب في القرب أقرب البُعد، ورؤية الأُنس في الأنس أعظم الوحشة، ورؤية الذكر في الذكر أشد النسيان، ورؤية المعرفة في المعرفة أكبر النكرة.
وقال بعض أهل المعرفة: كلما ظننتُ أني وجدتُ فحينئذ فقدت، وكلما ظننتُ أني فقدتُ فحينئذ وجدت، إلهي إن تركتك طلبتني، وإن طلبتك طردتني، لا


معك قرار، ولا مع غيرك أنس، فالمستغاث منك إليك. وقال أبو يعقوب:(1) أجهل ما يكون العبد بالله، إذا ظن أنه استغنى عن الدنيا بالمعرفة.
وقال يحيى بن معاذ: ذنبٌ افتقرتَ به إليه، خيرٌ من طاعةٍ افتخرتَ بها عليه. وكان فضيل كثيراً ما يبكي ويردد هذه الآية: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)(2) ويقول: عملوا أعمالاً حسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات، حين يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
أي بني، المعرفة مستقر ومستودع، مستقر في قلوب الأولياء، ومستودع في قلوب الأعداء، ثم يُسلب في آخر الأمر، فليس للموفَّق أن يعتمد على توفيقه، ويأمن من مكره، ولا للمخذول أن ييئس من رَوح ربه، وربما يرى الرجل للرجل الرؤيا الصالحة، وهو استدراجٌ من الله تعالى، كما حُكي أن رجلاً من أهل الشام أتى إلى العلاء بن زياد(3) وقال له: إني رأيتك في المنام كأنك من أهل الجنة، فترك مجلسه وأخذ في البكاء، وقال: لعل الله أراد أمراً.
قيل: أصل الاستدراج نسيان الحق، والاستغناء بمن دونه، والتعلق بما سواه، والالتفات منه إلى غيره وليس على تحقيق في المعرفة مَن يغتر بكثرة العلم والعمل، لأن إبليس كان معلم الملائكة، ثم في آخر الأمر نظر إلى نفسه وعبادته، وترك أمراً من أوامر الله، فصار من الملعونين المطرودين أبد الآبدين.
وإياك أن تغتر بعمارة الأوقات، وصفاء الأحوال، فإن برصيصاً(4)


وبلعام (1) كانا أعبد الناس في زمانهما، وأحسنهم حالاً، وفي آخر الأمر مالا إلى النفس والهوى، فصارا مفتضحَيْن في الدنيا والآخرة، ولا تغتر بصحبة الصالحين والزهاد بغير الحُرمة والمتابعة لهم، فالصحبة لو نفعت لنفعت امرأة نوح وامرأة لوط، ولأن الاغترار مدرجة من مدارج الاستدراج.
قال الله تعالى: ( فلا تغرنكم الحيوة الدنيا) (2) الآية، وقال تعالى: (يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم)(3) وذلك أن الشيطان ربما يأتي الزاهد ليغره، فيقول: يا ولي الله ويا خيرته من خلقه، أما ترى من ربك هذه الكرامات والعطايا والقرب والأنس، أما تدري ما ألهمك ربك من كلام أهل المعرفة، وحقائق أنواع الإشارات، فهل يكون مثل هذا إلا لأهل محبته؟ أما ترى حال قربك معه، وكمال لطفه بك، وأنك لو أقسمت على الله لأبرك، ولا شك أن الملائكة ينظرون إلى حركاتك وسكناتك وحسن أحوالك، وقد رَجَحَ فضلك على أهل زمانك، فما أغفل الناس عما أنت فيه! حتى يغره بأنواع مكره وخديعته، فإن تداركه الله بالفضل والرحمة، وبصَّره بمكائد عدوه، وعرج ملتجئاً بسره إلى سُرادقات قدرته، فعند ذلك يسلم من درجات آفات الاستدراج.
واعلم أن قلوب أهل المحبة لا تزال تموج من خوف الاستدراج(4)، كما تموج


البحار، حتى يصير كل ما فيه بالله لله، ورأيت مكتوباً على عصاً واحدة:
كل ذنبٍ لك مغفـــو رٍ سوى الإعـراض عني
فقلت:
إن كنتُ أعرضتُ فقد تبتُ عدتُ إلى الوصلِ كما كنتُ
وليس لي جُرْمٌ سوى أنني نظرتُ في الحُبِّ فعوقبـتُ

الحديث الرابع والعشرون
[ أحبوا الله.. ]

أخبرنا شيخنا الإمام فرد الوقت الباز الأشهب خالي أبو المكارم منصور البطايحي الرباني رضي الله عنه، قال: أنبأنا القاضي أبوالحسين محمد بن علي بن المهتدي، قال: أنبأنا أبوالحسن علي بن هبة الله بن عبدالسلام، قال أنبأنا أبوالحسين أحمد بن محمد، قال: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد الحربي، قال: أنبأنا أبو عبدالله أحمد بن علي عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحُبي" (1) وبهذا الحديث الشريف نظام التصفية، فمن أدركها فقد أدرك الصفاء، والتحق بأهل الاصطفاء.
أي بني، اعلم أن للصفاء ظهراً وبطناً، فأما ظهرها فأن تصفي كليتك من أدناس النفس، والخَلق والدنيا، وأما بطنها فأن تصفي كُلِّيَّتك من غبار رؤية الأعمال، وطلب الأعواض على الأعمال، والالتفات منه إلى ما سواه، رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إسرارَكم إسرارَكم، فإنه عند الله بواد" (2). ويقال: جديدُك مع الله لا تُخلِقه مع


الناس، وصفاؤك مع الله لا تكدره مع الناس. وقال يحيى بن أبي كثير(1) دخلت مكة فاستقبلني عطاء بن أبي رباح(2)، وسلم علي، ثم أقبل على الناس فقال: تسألوني عن العلم وفيكم يحيى بن أبي كثير قال: فتضرعت إلى الله أربعين يوماً إلى أن يُذهب حلاوة هذه المقالة من قلبي.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن أواني الله في الأرض هي القلوب، فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها (3)، معناهُ أصفاها لله عند المراقبة، وأصلبها في دين الله عند المخاطبة وأرقها على الإخوان عند الموافقة. وقال يوسف ابن الحسين لما اشتغل قلب مريم بحب ابنها، سمعت صوتاً: لما كان سرك صافياً لنا، كنا نرزقك في الشتاء والصيف من غير واسطة ولا شدة عناء، فلما ميَّلتِ سرك عني فلا يأتيك رزقك إلا بشدة، وذلك قوله تعالى: (وهزي إليك بجذع النخلة) (4) الآية. وقال أبو محمد الجريري (5) اعلم أن العبد إذا لم يُصْفِ وقته لله


تعالى في إقامة العبودية، انقطع عن الله وهو لا يشعر، فمن اجتهد في صفاء معاملة الظاهر، أورثه الله صفاء معاملة الباطن، ومعنى قوله: "انقطع عن الله وهو لا يشعر" قول أبي يزيد: مَن ظن أنه بالحال يصل فبالحال ينقطع، ومن طلب الأنس بالحال فبالحال يستوحش.
قال أبو محمد الجريري: إن الله تعالى حكم على أصفيائه وأحبابه، أن لا يخرجوا من الدنيا إلا وطوق العبودية في أعناقهم، وبحق أقول: ما اشتغل أحد بغيره إلا ضاع عمره، وذهبت عنه صفاوة الوقت، فمن أراد صفاوة الوقت فليؤثر الله على شهوته.
وقيل لواحد: ما حقيقة صفاوة الوقت؟ فقال: تصفية الكُلية، لخلاّق البرية، بوفاة صدق العبودية. قال الأنطاكي (1) إن وجدت رَيناً (2) في قلبك فأدم الصيام، فإن وجدت رَيناً فأقِل الكلام، فإن وجدت رَيناً فاترك الآثام، فإن وجدت رَيناً فأكثر البكاء والتضرع إلى الملك العلاّم. ويقال: الجهل كله موت إلا من يرزقه الله العلم، والعلم كله حُجة إلا من وفقه الله للعمل به، والعمل كله هباءٌ منثور، إلا أن يكون صافياً لله، وأهل الصفاء على خطرٍ عظيم، إلا أن يسلموا ذلك إلى الله تعالى بلا عيب، ويجب على العبد أن ينظر في حال أكله وشربه ولباسه وكلامه وحركاته وإرادته، فيدعَ منها ما كدر، ويأخذ ما صفا، لأن صفاوة الأوقات على قدر صفاوة الأحوال.
قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم)(3). وقال ذو النون: إن لله عباداً يبلغون في درجة الصفاء مقاماً تقع فراستهم على سرّ الناس، فيعرفون السعداء من الأشقياء،


يختص برحمته من يشاء من عباده.
وقيل لأبي عبدالله: ما فضل أهل الصفاء على غيرهم؟ قال: رفع الحجاب عنهم، واتهام الوشاة فيهم، وإفشاء الأسرار إليهم. قيل: هل يكون لأهل الصفاء حلاوة العبادة؟ قال: أما قبل رؤية المِنَّة فنعم، وأما قبل رؤية العبادة فلا، بلا تعليق.
وقيل لبعضهم: متى يعرف الرجل أنه من أهل الصفاء؟ فقال: إذا ستر جميع المعاصي بستر التوبة، وستر جميع الخيرات بذكر ستر المِنَّة، وستر ما دون الله بستر الله تعالى.
وحُكي أن بهلولاً (1) كان لا يأخذ شيئاً من أحد، وإن أُكثر عليه الإلحاح، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن لا نأخذ بالواسطة، لأن منها ذهاب الصفاء. قيل: وما الصفاء؟ قال: طيران القلب بأجنحة الاشتياق لرب العالمين. ويقال: أدنى أوصاف أهل الصفاء عيش القلب مع الله بلا علاقة، ومَن لم يعرف نفسه بالفقر، والفاقة والعجز والضعف، لم ينل صفوة اليقين، وإذا كان العبد لله تعالى كأن لم يكن، يكون الله تعالى له كما لم يزل.
وقال أبو سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.
وقال الإمام معروف الكرخي (2) رضي الله عنه: بينا أنا أسير في البادية، ولم يكن معي


أحد من البشر، إذ نزل شخصٌ من السماء، فسألني ما الصفاء؟ فقلت: صدق الوفاء. فقال: صدقت، ثم عرج وهو يقول: ( يوفون بالنذر ويخافون)(1).
أما ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وضع قدماً بصدق الوفاء على صخرة صماء، فأمر الله تعالى أن اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
وحقيقة الصفاء. التخلق بخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بأصحابه أولي الصدق والوفاء، والانقطاع إلى الملك الأعلى، وقيل: حقيقة الصفاء طرح القلب على بساط الامتنان، واستقامة السر مع الملك الديّان. وقيل: تصفية القلوب لعلام الغيوب. وقيل: صدق الافتقار مع دوام الاضطرار، وترك الاختيار مع حسن الانتظار.
وقيل: فناء الكلية تحت كمال القدرة، وطيران الهِمة بأجنحة الشوق نحو رب العزة. وقيل: هجرة السر إلى الله من المراتب والدرجات، والفرار إلى الله من المنازل والمقامات. وقيل: هي مجانبة دواعي النفس، ومتابعة دواعي الروح، وإخماد صفات البشرية تحت صفات الربوبية.

الحديث الخامس والعشرون
[مَن تصدق من كَسْبٍ طيِّب]

أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الكبير الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رحمه الله رحمة واسعة، قال: أنبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد الكاتب، قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد الغيلان، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالله الشافعي، قال: أخبرنا محمد بن غالب، حدثني عبدالصمد بن ورقاء، عن عبدالله بن دينار، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يطعمه إلا لله تعالى، فإن الله يقلبها بيمينه، ويربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه حتى يكون مثل الجبل" (1).
حث هذا الحديث الشريف على بذل المعروف، ونبّه على لزوم الإخلاص فيه، وبشر بعد الإخلاص بمضاعفته وقبوله، وكل هذا انطوى في الإخلاص، وهو نور العارفين بالله، إذا الأعمال بغير الإخلاص كلها ظُلمة، وبه تنوّر(2)، وبذلك


ارتفعت همم العارفين في الأعمال إلى الإخلاص: ( ألا لله الدين الخالص).(1)
ألا إن(2) المتحققين بالتصوف صفت سرائرهم، وحسنت شعائرهم، هممهم ربهم وخُلُقُهم سُنة نبيهم، عكس المروق من أصحاب الدعوى.
أي بُنيّ، إذا نظرتَ في القوم الذين ادَّعوا التصوف اليوم، رأيتَ أن أكثرهم من الزنادقة والحرورية والمبتدعة، ورأيتهم أكثر الناس جهلاً وحمقاً، وأشدهم مكراً وخديعة، وأعظمهم عُجباً وتطاولاً، وأسوأهم ظناً بأهل الزهد والتقوى، وأهل الصدق والصفاء، وعلامات أهل الصفاء أدق من أن يصفها واصف، وأعلى من أن تحتملها الأوهام، فمن علامة الصوفي أن يصفو في أقواله وأفعاله وحركاته من أدناس آفات النفس والخَلق والدنيا، وتصفو خواطره من غبار الإعراض عنه تعالى والنظر منه إلى مَن سواه، وأيضاً من علاماته أن يكون مع النفس بلا نفس، ومع الخَلق بلا خَلق، ومع القلب بلا قلب، ومع الحال بلا حال، ومع الوقت بلا وقت، ويكون مستقيماً على بساط أمر الله، متذللاً تحت جلال عظمه الله، مستكفياً مستغنياً به عن غيره، قلبه مضروب بسياط خوف القطيعة والهجران، وسِرُّه مضروب بسياط خشية البُعد والحرمان، نفسه منورة بنور الخدمة، وقلبه منور بنور المحبة، وسره منوّر بنور المعرفة، ومن علاماته أيضاً أن يكون فؤاده طائراً بأجنحة الشوق، وأركانه مستقيمة على طريق الحق، بالحق للحق مع حسن الانتظار، وعلى غاية الانكسار، مقبلاً بالكلية على مليكه، مع ترك الالتفات منه إلى مُلكه، مع الفرار من المخلوقين، لشدة


وجدانه حلاوة الأنس برب العالمين، رجوعه إلى الحق، واعتماده على الحق، وقراره مع الحق، من غير أن يلتفت منه إلى الخَلق، وحشيّ القلب سماوي الحديث، رباني العلم، فرداني الهمة، روحاني العيش، نوراني القدر، وحداني المعنى، جميع إرادته تحت إرادة المعبود، شاكر لله في السر والإعلان، كي لا يقع في أبحر الكفران، ذاكر لله بالقلب واللسان، في كل وقت وأوان، كيلا يتيه في مفاوز النسيان، يعلم أن المولى يراه، ومن فوق العُلا يرعاه، فهو فان تحت عظمة نظره، متلاش بكليَّته تحت كمال قدرته، مستغرق صفاء أوقاته في أبحر امتنانه، مع سقوط كل حلاوة، غير حلاوة محبة ربه، مستقيم على صدق العبودية، من غير رؤية العبودية، فارغ القلب عن الشغل بغير الله، مع الاتكال بالقلب على الله، متواضع لأهل الإيمان، قائم على بساط الأحزان، حتى يأتيه اليقين(1) بالعفو والرضوان، لسانه مثل قلبه، يصدق في جميع أقواله وأفعاله، لا كما قال الله تعالى: (لم تقولون ما لا تفعلون)(2) ، شاكر لقليل النعمة، صابر على كثير الشدة، راض بقضاء رب العزة، دائم على احتراس القلب لله بالحجة، لا يخاف دون الله، ولا يرجو غير الله، ولا يريد إلا الله، لما عَلِمَ أنه لا مُضِرّ ولا نافع، ولا رافع ولا دافع، ولا معز ولا مذل، إلا الله وحده لا شريك له، متابع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومذاهب أصحابه، خائف من سوء العاقبة، مشتغل بالمُقدِّر إذا اشتغل الناس بالتقدير، وبالمدبر إذا اشتغلوا بالتدبير، جالس على بساط الخدمة مع الحياء، متكئٌ على سرير الفقر والفاقة، مُشرفٌ على غُرف القُرب والمشاهدة، شاربٌ بكأس الأنس والمحبة، يطيل صمته، ويكظم غيظه، ويغلب شهوته، ويفارق راحته، من غير أن يلتفت إلى معاملة قلبه، فارغ من مصالح نفسه، تارك لجميع راحاته وشهواته، خائف من الوحشة بينه وبين حبيبه، يكون أحسن الناس للناس وأتقاهم، وأصدق الناس وأصفاهم، وأعقل


الناس وأرعاهم، ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار، وإلى النفس بعين الاحتقار، وإلى الآخرة بعين الاستبشار، وإلى الرب بعين الافتخار، في الاستقامة كالجبل الراسي، لا تحركه الرياح الهائجة، لا يطلب ما ليس له، ولا يهتم بما قُسم له، فارغ عن خدمة المخلوقين، مشتغل بخدمة رب العالمين، لا يُعرِض عنه ببلواه، ولا يختار حبيباً سواه، نفسه طاهرة من كل خطأٍ وزَلّة، وقلبه متبرئ من كل سهو وغفلة، وسرُّه من كل حول وقوة، بدون الله سبحانه لا يرضى، طعامه طعام المرضى، وبكاؤه بكاء الثكلى، لا يتوكل قلبه إلا عليه، ولا يسلم إلا إليه، ولا يشكر النعمة إلا له، ولا يطلب الحاجة إلا منه، مستأنس بالله في جميع الأحوال، منقطع إليه في جميع الأعمال، وذكر الله حديثه في جميع المقال، تارك اختياره إلى ذي الجلال، نومه قليل، وحزنه طويل، وبدنه نحيل، وأنيسه المَلِكُ الجليل، حسبنا الله ونعم الوكيل.

الحديث السادس والعشرون
[ من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال]

أخبرنا شيخنا العارف بالله خالي الشيخ أبو بكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني الأستاذ أبو القاسم علي بن أحمد البسري، قال: أنبأنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد بن مهدي، قال: أنبأنا محمد بن مخلد العطار، قال: أنبأنا محمد بن علي بن خلف، قال: أخبرنا عمرو بن عبدالغفار، عن حسن بن حُيي وسفيان الثوري، عن سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد، عن عمر بن أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر"(1).
وسِرُّ ذلك استغراق العبد في أداء الفرض، وانغماسه في السنة المحمدية، فإنها بركة الوقت، وليس عند العارف أهم من استحصال بركة الوقت، بفرض أو سنة، أو جَمْعٍ بينهما، وهناك منتهى الهمم، فإن السنة المحمدية روح العارف، بها يقوم وبها يقعد، وهي منار باب العارفين، فإن مُشيِّد أركانها، ورافع بنيانها صلى الله عليه وسلم لم ينطق عن الهوى، بل هو جلجلة ( ما زاغ البصر وما طغى)(2) ولوراثه العارفين هذه الحصة من بركة إتِّباعه، وأرواحنا وأرواح العالمين فداه.

أي بني، اعلم أن قلوب أهل المعرفة خزائن الله في أرضه، يضع فيها ودائع سره، ولطائف حكمته، وحقائق محبته، وأنوار علمه، وآيات معرفته، التي لا يطلع عليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا أحد دون الله بغير إذنه سبحانه، فينبغي أن يكون العارف عالماً بصلاحه وفساده، مستقيماً على معاملته، عارفاً بربحه وخسرانه، حافظاً له من مكابدة عدوه، مستعيناً بالله في ذلك كله، وأن لا يدع في قلبه مكاناً لغيره، فإن الله تعالى إذا اطلع على قلب فرأى فيه غيره مقته وخذله، وسلط عليه العدو، ومعاملة القلوب لله خاصة، ومعاملة الأركان مختلطة، ومعاملة القلوب تُقبل بغير الأركان، ومعاملة الأركان لا تُقبل بدون القلوب، ولا تستوجب الثواب، فإن كان العبد في معاملة القلب مقصراً، وفي معاملة الأركان موفِّرا، حُكم على توفير أحكامه بتقصير قلبه، وإن كان في معاملة القلب موفِّرا وفي معاملة الأركان مقصراً، حُكم على تقصير أركانه بتوفير قلبه.
رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم من بني إسرائيل قد لبسوا المسوح، وقد جعلوا التراب على رؤوسهم، ودموعهم منحدرة على خدودهم، فبكى عليهم رحمة لهم، وقال: إلهي، أما ترحم عبادك، أما ترى حالهم؟ فأوحى الله إليه: يا موسى انظر هل نفدت خزائني، أولستُ بأرحم الراحمين؟ كلا(1)، ولكن أعلمهم بأني بذوات الصدور خبير، يدعونني بقلوب خالية عني، مائلة إلى الدنيا(2).


وروي أنه(1) صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد على صخرة منذ ثلاثمائة سنة، كان يبكي ودموعه تجري على الأودية، فوقف عليه وبكى لبكائه، وقال: يا إلهي أما ترحم عبدك؟ فقال الله تعالى: لا أرحمه، قال: ولم يا إلهي؟ قال: لأن قلبه يستريح إلى غيري، وكان له جبّة يستتر بها من الحر والبرد.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا يستقيم عمل العبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (2).
وقال عليه الصلاة والسلام: " إن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلحت الأعضاء كلها، ألا وهي القلب " (3)، وقال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب وَجِلَة، وأبصار خاشعة، وأبدان نقية، ونية صادقة.
قال يحيى بن معاذ: قلب المؤمن مضغة جوفانية، حشوها جوهرة ربانية، حولها روضة فردانية، تحتها ساحة نورانية، والله تعالى ناظر إليها في كل لحظة بالرحمة والشفقة، ويحول بينها وبين ما يشغله عنه، قال الله تعالى: (ومن أوفى بعهده من الله) (4) وقيل: معاملة القلوب أمر شديد، والثبات عليها أشد وأصعب.

قيل لبعض أهل المعرفة: عبدٌ فقد قلبه متى يجده؟ قال: إذا نزل فيه الحق. قال: متى ينزل؟ قال: إذا ارتحل عنه ما دون الحق.
ومعاملة القلوب على عشر مدارج، أولها الخطرات، ثم حديث النفس، ثم الهم، ثم الفكر، ثم الإرادة، ثم الرضا، ثم الاختيار، ثم النية، ثم العزيمة، ثم القصد، حتى يبلغ إلى عمل الظاهر، فمن قام لله تعالى فحفظ معاملة القلب عند الخطرات، فهو على مدارج الصديقين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند حديث النفس فهو على مدارج المقربين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الهم فهو على مدارج الأوابين، ومن قام لله على حفظ معاملة القلب عند الفكرة فهو على مدارج المخلِصين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الإرادة فهو على مدارج المريدين، ومَن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الاختيار فهو على مدارج المتقين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند النية فهو على مدارج الزاهدين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند العزم فهو على مدارج المنيبين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند القصد فهو على مدارج المجتهدين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب على عمل الظاهر فهو على مدارج العابدين من عامة الموحدين.
وقال إسحاق بن إبراهيم(1): لِأنْ تُرَدِّدْ قلبك إلى الله تعالى ذرة خير لك من جميع ما طلعت عليه الشمس، وما من أحد صفا قلبه من أدناس الشهوات، وطهره من غبار الغفلات، ونقاه من كدورات الغوايات، إلا أطلعه الله على غاية الغايات.
وقال بكر بن عبد الله (2) في معنى قوله تعالى: ( وجاء بقلب منيب)(3) قال: الذي يمشي ببدنه على الأرض، وقلبه معلق بالله تعالى.

وقيل لأبي عبدالله: ما القلب السليم؟ قال: قلب منقطع من علائق الدنيا، مملوء من حب المولى، لا يشكو من الشدائد والبلوى، ولا يهتك أستار الصيانة والتقوى. ويقال: من لم يكن بينه وبين الله معاملة سرية كان مسيئاً وإن كان محسناً، ومن لا ير أن الكونين بما فيهما بسير قدرته، وسريع لحظته، لم ينل معاملة القلب.
وقال أبو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالثلاثاء 17 يوليو 2012, 4:06 am

وقيل لأبي عبدالله: ما القلب السليم؟ قال: قلب منقطع من علائق الدنيا، مملوء من حب المولى، لا يشكو من الشدائد والبلوى، ولا يهتك أستار الصيانة والتقوى. ويقال: من لم يكن بينه وبين الله معاملة سرية كان مسيئاً وإن كان محسناً، ومن لا ير أن الكونين بما فيهما بسير قدرته، وسريع لحظته، لم ينل معاملة القلب.
وقال أبو سعيد الخراز(1): اعلم أن معاملة القلب هي تجديد السر مع الانفراد به، وملاحظة القلب على دوام حفظ الأوقات مع صدق الحال، من غير التفات منه إلى الوقت والحال.
وقال أبو الدرداء(2): إن لله تعالى عباداً تطير قلوبهم إلى الله اشتياقاً لا يدركها البرق الخاطف.
ويُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بحق وقر في قلبه" (3).
إن الله تعالى لا يردُّ القليل لقلته، ولا يقبل الكثير لكثرته، ولكن (إنما يتقبل الله من المتقين) (4) ويقال: ليس على مقام الصدق مَن تعلق قلبه بالمقام، ولكن الصادق من تعلق قلبه برب المقام مجرداً، حتى لا يرى مع الله غير الله أحداً. ويقال: إذا صارت المعاملة إلى القلوب استراحت الأبدان. ويقال: لا تكون معاملة القلب إلا لمن له قلب صاف ليس بساه، صحيح ليس بجريح، بصير ليس بضرير، فريد ليس بطريد، طالب ليس بهارب، قريب ليس بغريب، عاقل ليس بغافل، سماوي ليس بأرضي، عرشي ليس بوحشي.

وقال ثابت النساج (1): قرأت القرآن سنين بالخوف فلم أجد القلب، ثم قرأته بالرجاء فلم أجد القلب، ثم قرأته بتجريد القلب عن كل ما دون الله تعالى، فعند ذلك وجدته، ورأيت عند وجوده الولاية الكبرى، والعزة العظمى، والمراتب العليا.
وقال الله تعالى في بعض الكتب: القلوب بيدي، والحب في خزائني، فلولا حبي لعبدي ما قدر العبد أن يحبني، ولولا ذكري له في الأزل ما قدر أن يذكرني، ولولا إرادتي إياه في القدم ما قدر العبد أن يريدني.
قيل: إن عارفاً رأى رجلاً يدور حول المسجد، فقال له: يا هذا ما تطلب؟ قال: أطلب موضعاً خالياً أصلي فيه، فقال: خل قلبك عما دون الله، وصَلِّ في أي موضعٍ شئت.
ويقال: بقدر إقبالك على الله يكون قرب القلب منه، وما اطلع الله على قلب عبد فرأى فيه غيره إلا عذبه الله به، ووكله إليه.
وقال يحيى بن معاذ: القلب إذا وضعته عند الدنيا خاب، وإذا وضعته عند العقبى ذاب، وإذا وضعته عند المولى طاب. وقال: الدنيا خراب، وأخرب منها قلب مَن يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها. وقال: مفاوز الدنيا تُقتطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقتطع بالقلوب. وقال: خراب النفس من عمارة القلب، وعمارة النفس من خراب القلب.
سئل واحد من أبناء القلوب: ما لك لا تتكلم؟ فقال: قلبي يتكلم. قيل: مع من؟ قال: مع مقلب القلوب.

الحديث السابع والعشرون
[المرءُ مع مَن أحب]

أخبرنا شيخنا الجليل العارف بالله شيخنا أبو الفضل على الواسطي القرشي يعرف بابن القاري رضي الله عنه، قال: أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد المظفر الداودي، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، قال: أنبأنا أبو عبدالله بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا بشر بن خالد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب"(1).
وفي هذا الحديث الشريف من الإلزام بمحبة أحباب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه بلاغ للموقنين، وهدى للمتقين، ونور للعارفين، فإن مَن تدبر سر المعية التي أفصح بها هذا النص الأشرف، انسلخ إلا عن محبة الله تعالى، ومحبة مَن أحبه الله وأحب الله، وكذلك العارفون رضي الله عنهم، ومِن العارفين مَن هم أهل القلوب المنيرة، أصحاب صفاء السريرة، والعمدة على القلوب.
أي بني، اعلم أن الله تعالى ذكر في محكم كتابه للعباد أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وترغيبه وترهيبه، وقضاءه وتقديره، وحكمه وتدبيره، ومشيئته في خلقه، وضرب الأمثال، وذكر آلاءه ونعماءه، ولطائف صنعه، وكمال قدرته، وعظيم ربوبيته.
ثم قال: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)(2) أشهدَ في هذه الآية


جميع العباد، شَرَّفَ مراتب أبناء القلوب، وبَيَّنَ فضلهم على مَن دونهم.
قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى: ( لمن كان له قلب): أي قلب واثق بجميع ما ذكره الله سبحانه في كتابه من الوعد والوعيد وغيرهما، وقال بعضهم: لمن كان له عقل يزجره عن جميع الضلالات والغوايات في جميع الحالات.
وقال بعضهم: لمن كان له ذهن يفر به عن الشرك والشك. وقال بعضهم: لمن كان له يقين يسقط عنه وثائق الغرور، في جميع الأمور إلى أن يصل إلى الملك الغفور. وقال بعضهم: لمن كان له سر يتلاشى مع جميع أوصاف العبودية، تحت إشارة الربوبية، عند مشاهدة الحق، وقال بعضهم: لمن كان له استقامة السر مع الحق، من غير التفاتٍ منه إلى ما سواه، وقال بعضهم: لمن كان له قلب مفرد لتفرد الفرد.
وإن الله تعالى زين قلوب العارفين بزينة المعرفة كرماً وامتناناً، وزين قلوب المريدين بالعظمة والهيبة رحمةً وإحساناً، وحجب قلوب الغافلين بالجهل والغفلة محنةً وخذلاناً، وطبع على قلوب الكافرين بالإبعاد والنكرة طرداً وحرماناً. والقلوب ثلاثة: قلب يطير في الدنيا حول الشهوات، وقلب يطير في العقبى حول الكرامات، وقلب يطير في سدرة المنتهى حول الأنس والمناجاة، فقلبٌ معلق بالدنيا، وقلب معلق بالعقبى، وقلب معلق بالمولى، وقلب حريق، وقلب غريق، وقلب سحيق. وقلب منتظر للعطاء، وقلب منتظر للرضاء، وقلب منتظر للقاء. وقلب مشروح، وقلب مجروح، وقلب مطروح. وقلب منيب، وهو قلب آدم عليه الصلاة والسلام، وسليم، وهو قلب إبراهيم علية الصلاة والسلام، ومنير، وهو قلب سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

الحديث الثامن والعشرون
[ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ]

أخبرنا شيخنا القاضي الثقة المقري الجليل الشيخ أبوالفضل علي الواسطي القرشي رحمه الله رحمة واسعة، قال: أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، قال: أخبرني عبدالله أحمد السرخسي، قال: حدثني أبو عبدالله محمد الفربري، قال: حدثني أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثني إسحاق ابن إبراهيم، قال: أخبرنا الحسين، عن زائدة، عن عبيد الملك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: تعوذوا بكلمات كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهن: "اللهم إني أعوذ بك من الجُبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"(1). استعاذ صلى الله عليه وسلم من القواطع من الله تعالى، فإن الجبن مُقعِد عن قول الحق، والبخل مقصر عن طلب الحق، وأرذل العمر صارف عن بذل الهمة في الحق، وفتنة الدنيا قاطعة عن الحق، وعذاب القبر نتيجة أولئك، والعياذ بالله، وفي مضمون هذه الاستعاذة الشريفة المحمدية، إرشاد بإعلاء الهمة عن الجبن، والبخل، وحث على التجرد إلى الله تعالى، وهذا بغية العارفين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا مصلح الصالحين، يا ولي المتقين، يا دليل المتحيرين، يا أنيس العارفين، يا أرحم الرحمين.
أي بني، اعلم أن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى حكيم فيما حكم،


وقديرٌ عالمٌ بما قضى ودبَّر، وعرف أنه جاهل بالمحبوب والمكروه، رضي عن الله في حكمته وقضائه، والرضا هو سكون القلب إلى الحكيم، وترك الاختيار مع التسليم، ولا شيء أشد على النفس من الرضا بالقضاء، لأن الرضا بالقضاء، يكون على خلاف رضا النفس وهواها، فطوبى لعبد آثر رضا الله تعالى على رضا نفسه.
وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول في مناجاته: إلهي خصصتني بالكلام ولم تكلم بشراً قبلي، فدلني على عمل أنال به رضاك، فقال الله تعالى: يا موسى رضائي عنك رضاك بقضائي.
وقال الداراني (1) : أرجو أن أكون قد أُعطيت من الرضا طرفاً، وذلك أن الله تعالى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً، وإن أحق الناس بالرضا أهل المعرفة، وهو باب الله الأعظم.(2)
وروى في بعض الكتب: أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يهبط الأرض، فرأى رجلاً عليه أثر السكينة، فقال: يا رب ما أحسن هذا الرجل، فقال الله تعالى: يا جبريل انظر اسمه في اللوح في أسماء أهل النار، فقال: إلهي ما هذا؟ فقال: يا جبريل إني لا أُسأل عما أفعل، وإنه لا يبلغ أحد من خَلقي علمي إلا بما شئت. فقال


جبريل: يا رب أتأذن لي أن أخبره بما رأيت؟ قال لك الإذن، فهبط جبريل وأخبره بحاله، فخر الرجل ساجداً، وكان يقول: لك الحمد يا مولاي على قضائك وقدرك، حمداً يعلو حمد الحامدين، ويزيد على شكر الشاكرين. قال: فما زال يحمد الله تعالى حتى ظن جبريل أنه لم يسمع ما قال، فقال: يا عبدالله وهل سمعت ما قلت لك؟ قال: نعم، أخبرتني أنك وجدت اسمي بين أسماء أهل النار في اللوح المحفوظ، قال فما هذا الحمد والشكر؟ قال: سبحان الله يا جبريل، إن الله تعالى قد قضى مع كمال علمه، وسعة رحمته وحلمه، ولطائف ربوبيته، وحقائق حكمته، فمن أنا حتى لا أرضى؟ تبارك الله ربي، ثم خر ساجداً، وأخذ في التسبيح والتحميد. قال: فرجع جبريل إلى الله، فقال الله تعالى: ارجع في اللوح المحفوظ وانظر ماذا ترى، فرجع فإذا اسمه في أسماء أهل الجنة، فقال: يا جبريل، هو ما ترى، إني لا أُسأل عما أفعل، فقال جبريل: إلهي ائذن لي حتى أخبره بما رأيت، فقال: لك الإذن، قال: فهبط جبريل فأخبره بما رأى، قال: لك الحمد يا سيدي ومولاي على قضائك وقدرك، حمداً يعلو حلو الحامدين، ويزيد على شكر الشاكرين(1). فرجع جبريل متعجباً من كمال رضاه عن الله بكل ما حكم له.
وكذلك روي: أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه، أن قل لعبدي فلان ابن فلان: إنك من أهل النار. فلما بلّغ إليه الرسالة حمد الله تعالى، وقال: الحمد لله على ما قضى، فالأمر أمره، والحكم حكمه. فقال الله تعالى لنبيه: الحق به ثانياً وأخبره أني قد غفرت لك، حيث رضيت بقضائي. فبلغ الرسالة، فشهق الرجل شهقة وخر ميتاً.

وإن قضاء الله تعالى على أربعة أوجه: قضاء النعمة، فعلى العبد فيه الرضا والشكر، والثاني قضاء الشدة، فعلى العبد فيه الرضا وذكر المنة، والقيام بالواجب إلى الموت، والرابع قضاء المعصية، فعلى العبد فيه الرضا عن الله والتوبة.
وسُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن القضاء والقدر، فقال: ليلٌ مظلم، وبحر عميق، وسر الله الأعظم، فمن رضي به فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
وروي أنه لما وُضع المنشار على رأس زكريا عليه الصلاة والسلام هَمَّ أن يستغيث بالله تعالى، فأوحى الله إليه أن يا زكريا إما أن ترضى بحكمي لك، وإما أن أخرب الأرض وأُهلِكَ من عليها. فسكت حتى قُطع نصفين. وحكي أن رابعة البصرية مرضت، فقيل لها أما ندعو لك طبيباً؟ فقالت: من قضى علي؟ فقالوا: الله تعالى. قالت: أو مثلي من يرد قضاء سيده؟
ومرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقيل له: أما ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني. قيل وما قال؟ فقال: قال إني فعّال لما أريد.
شكا نبي من الأنبياء بعض ما ناله من المكروه، فأوحى الله إليه: كم تشكوني ولستُ أهل ذم ولا شكوى، فهكذا كان شأنك في عملي؟ فلم تسخط؟ أفتحب أن أعيد الدنيا من أجلك؟ أو أبدل اللوح بسببك، فأقضي ما يسرك كما تريد لا كما أريد، ويكون ما تحب دون ما أحب؟ فبعزتي حلفت لئن تَلَجْلَجَ هذا في صدرك مرة أخرى، لأسلبنك ثوب النبوة، ولأوردنك النار ولا أبالي.
قال بعض الحكماء ليس العجب ممن ابتلي فصبر، إنما العجب ممن ابتلي فرضي. قيل لعبدالواحد بن زيد: أي الرجلين أفضل: رجل أحب البقاء ليطيع، أو رجل أحب الخروج شوقاً إليه؟ فقال: لا هذا ولا ذاك، ولكن رجل فوض أمره إلى الله، وقام على قدم الصدق في الرضا، فإن أبقاه أحب ذلك، وإن أخرجه أحب ذلك، فهذه منازل الرضا عنه، وخلق العارف معه.
قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله. وقال


أبو عبدالله النساج: إن لله عباداً يستحيون من الصبر ويسلكون مسلك الرضا وإن له عباداً لو يعلمون من أين يأتي القدر، لاستقبلوه حباً ورضاً.
وفي الخبر: " إن أول ما كتب الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر لنعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته يوم القيامة مع الصديقين، ومن لم يرضَ بقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليختر رباً سواي" (1). يقول قائلهم رضي الله عنهم: يا نفس إني أسلمتك إلى ربك، على أنه إن شاء جوَّعك، وإن شاء أشبعك، وإن شاء أعزك، وإن شاء أذلَّك، وإن شاء أحياك، وإن شاء أماتك، وهو أغنى وأولى بكِ منك، وأنت بالكُلّية له يا نفس، فما لكِ والحكم على مَن له الحكم والخلق والأمر.
وقيل ليحيى بن معاذ الرازي: متى يطيب عيش المؤمن؟ قال: إذا رضي عن الله تعالى بكل ما قضى وقدر، وحكم ودبر. وقيل له: متى يكون العبد راضياً عنه؟ قال: إذا قال العبد لربه: إلهي إن أعطيتني شكرت، وإن منعتني رضيت، وإن دعوتني أجبت، وإن تركتني عبدت.
والزهد عشرة أجزاء، وأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، والورع


عشرة أجزاء، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، واليقين عشرة أجزاء، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا، لأن الرضا أعلى درجة العبودية، وإن الله سبحانه جعل الروح والراحة في الرضا، وجعل الهم في السخط.
وحُكي أن عطية الحمصي (1)، قال إن والدي قال لإبراهيم بن أدهم (2): يا أبا إسحاق، لو كتبت من هذا الحديث كما كتنبا. فقال له: اشتغلتُ بثلاثة أجزاء، فإن فرغت منها فعلت ما تقول. قال: وما هي ؟ قال: التوكل على الله فيما تكفل به من الرزق، وإخلاص العمل لله، والرضا بقضاء الله. فأما التوكل والإخلاص فقد فرغت منهما بعون الله، وأما الرضا بقضاء الله، فإني منه في شغل شاغل، قال: فبكى والدي بكاء شديداً، وقال: ما أبعدنا عما أنت فيه، هل يكون فوق الرضا منزلة نقدر أن نقول فيها شيئاً.
قال محمد بن واسع (3): إني لا أغبط إلا مَن أصبح وليس له غداء ولا عشاء، وهو عن الله تعالى راض. قيل لسفيان الثوري: متى يكون العبد عن الله راضياً؟ قال: إذا سرّته المصيبة كما سرّته النعمة.
وقال رجل عند الإمام الحسين(4) رضي الله عنه: إن أبا ذر (5) كان يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إلىّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من رضي بحسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله له. وقال يحيى بن معاذ: طلبت العلم فلم أسترح، ثم طلبت العمل فلم أسترح، فرضيت عن الله


فغرقت في الراحة. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ليس الشأن في أكل خبز الشعير، ولبس الصوف. لكن الشأن في الرضا عن الله تعالى.
سيكون الذي قُضي
ليس هذا يدوم بل
كره العبد أم رضي
كل هذا سينقضي

كان مكتوباً على سيف عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قد قضى فيك حُكمَهُ
فأرد ما يكون إن
فانقضى ما يريده
لم يكن ما تريده(1)

كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أي يومي من الموت أفرّ
يوم لا يُقدَرُ لا يأتي به
يوم لا يُقدَرُ أم يومٌ قُدِرْ
ومن المقدورِ لا ينجو الحَذِرْ



الحديث التاسع والعشرون
[ لا إله إلا الله]

أخبرنا خالي وسيدي أبو المكارم منصور الرباني البطايحي الأنصاري الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني السيد الشريف حسن بن عسلة الرفاعي برواق أبي في أم عبيدة، قال: حدثني النقيب السيد يحيى الرفاعي، قال: حدثني أبي السيد ثابت، قال: حدثني أبي السيد علي الحازم الرفاعي، قال: حدثني أبي السيد علي أبو الفضائل، قال: حدثني أبي السيد الكبير رفاعة الحسن المكي الحسيني، نزيل إشبيلية، قال: حدثني أبي السيد محمد أبو القاسم، عن أبيه السيد الحسن القاسم، عن أبيه السيد حسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي، عن أبيه السيد أحمد الأكبر، عن أبيه السيد موسى، عن أبيه الأمير السيد إبراهيم المرتضى، عن أخيه الإمام علي الرضا، عن أبيه الإمام موسى الكاظم، عن أبيه الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام علي زين العابدين، عن أبيه الإمام الحسين الشهيد بكربلاء، عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضى، عن ابن عمه سيد المرسلين، وأشرف المخلوقين نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حدثني جبريل عليه الصلاة والسلام، قال: حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمِنَ من عذابي"(1).
هذا الحديث القدسي الذي وصل إلينا بالسند النبوي فيه من إعظام شأن كلمة التوحيد، ما يزيد العبد إيماناً، ويملؤه عرفاناً، ويلزمه بالمداومة على الذكر بهذه الكلمة، التي هي روح التوحيد، وما على قائلها بعد الإيمان بمبلِّغها صلى الله عليه وسلم من بأس، وكونها آخذة بالعبد إلى الافتقار إلى الله تعالى، والانقهار تحت عظمة فردانيته، فلذلك صارت حصناً للعبد بإذن الله تعالى.
أي بني، اعلم أن الغنى والفقر صفتان: صفة لله، وصفة للعبد، فصفة الفقر للعبد، وهو (1) صفة مدح، كما أن صفة الغنى لله، وهو صفة مدح، والفقر بالحقيقة صفة العبد، إذ لا يشوبه غنى، والغنى بالحقيقة صفة الرب، إذ لا يشوبه فقر، وإن أشرف صفات العبد افتقاره إلى الله في كل شيء كما أن أشرف صفات الرب استغناؤه عن العبد في كل شيء قال الله تعالى: ( والله غني وأنتم الفقراء)(2)، و(يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)(3).
واعلم أن الافتقار إلى الله مقسومٌ على النفس والروح والقلب والسرّ، ففقر النفس إلى الله تعالى يكون على سبيل القرب والرضاء، وفقر السر إلى الله تعالى على سبيل المشاهدة واللقاء، فكلما رأى العبد نفسه متحيرة على باب عهده ووفائه، رجع بالافتقار إلى باب عفوه، وكلما رأى روحه متحيرة على باب وده ومحبته، رجع بالافتقار إلى باب عنايته.
ومن حقيقة الافتقار الاستكفاء بالكافي، وطرح النفس السقيمة بين يدي المعافي. وأيضا حقيقته انتظار السبب من المسبب مع رؤية السبب، والاشتغال بالمسبب مع نسيان السبب. وأيضا من حقيقته دوام التبصبص (4) والاعتذار، بلسان صدق

الافتقار، مع غاية الانكسار، ومن حقيقته تخليص الأسرار من رؤية الأعمال، وترك الاعتماد على حسن الحال، ومن حقيقته أن لا ينصرف العبد عنه بخلقه ولا بملكه.
قيل لأبي عبد الله بن مقاتل: متى يكون العبد غنياً محتاجاً وهو في غناه وحاجته محمود؟ قال: إذا كان غناه بالله عن خَلقه، وحاجته إلى ربه. قال الشيخ أبو بكر الواسطي: إن العبد لا يعرف لله حق معرفته، حتى يعرف الفاقة الكبرى، قيل: وما الفاقة الكبرى؟ قال: أن يعلم أنه لم يهتد إلى ربه إلا به، ولا ينجو من سخطه إلا به. ويقال: الافتقار لواء أهل الولاية. ويقال: الافتقار طرح النفس بين يدي الرب، كالصبي الرضيع بين يدي الأم.
ويقال الافتقار فراغة في رعاية، ورعاية في ولاية، وولاية في عناية، وعناية في هداية، فمن لا فراغة له لا رعاية له، ومن لا رعاية له لا ولاية له، ومن لا ولاية له لا عناية له، ومن لا عناية له لا هداية له.
أي بني، اعلم أن الخَلق بأسرهم فقراء محتاجون إلى الله تعالى، أسرّاء تحت مشيئته، ضعفاء تحت علمه وقدرته، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا ذلاً ولا عزاً، ولا موتا ولا حياة، منصوبون بين سهام النعمة والرخاء، موقوفون بين القطيعة والشقاء، مستورة عنهم خواتيمهم، لهم الخوف والرجاء، والفقر والدعاء، والتضرع والبكاء، فما أفقر من هذه صفته، وما أضعف من هذه حالته.
واعلم أن الافتقار أجل مراتب المحبين، وأرفع منازل المنيبين، وأزلف(1) حالات المريدين، وأعظم آلات الأوابين(2) وأجلَّ مقامات التائبين، وأعلى وسائل المقربين، وهو أصل العبودية، وصدر الإخلاص، ورأس التقوى، ومخ الصدق، وأساس الهدى، فمن أراد أن يدخل في عُصبة أهل الافتقار، فينبغي أن لا يهتم بمصلحة نفسه وعياله، وأن يتملق بين يدي الله تعالى، وأن يكون آيساً مما سوى

الله، مع الافتقار إلى الله تعالى، كرجل يكون في بئر مظلمة، ورأس البئر مسدود، وأثره مستور، وليس له في البئر مؤنس، ولا للخلق على رأس البئر ممر، فهل يكون رجاؤه وافتقاره إلى أحد دون مولاه؟
وحكي أن رجلاً من الصالحين وقع في بئر في البادية وكان ضريراً ، فمرت على رأس البئر قافلة، فناداهم الرجل من قعر البئر، فهتف هانف: أيستغيث بغيري وأنا غياث المستغيثين، قال: فسكت الرجل، فإذا أهل القافلة سدّوا رأي البئر، وأرادوا أن يُخفوه (1) كي لا يقع فيه أحد، فصار الرجل آيساً من نفسه، وانقطع رجاؤه عن الخلق، ثم قال: إلهي الآن لم يبق لي غيرك، وأنا فقير إليك، فسلط الله أسداً حتى فتح رأس البئر، وهبط فيه، فأخذ الرجل بذنب الأسد، فرفعه إلى رأس البئر، فنودي من فوقه: لا تقطع قلبك عمن ينجيك بتلفٍ مَن تلف.
واعلم أن الله وضع تحت قوله (إياك نعبد) (2) كمال وفاء صدق العبودية، ثم علم كمال ضعف العبد وعجزه، فأعطاه كلمة أخرى وجمع له خير الدارين، وهو قوله تعالى: ( وإياك نستعين)(3) فكل حق الله تعالى على العبد، تحت قوله (إياك نعبد)، وكل فقر للعبد إلى الله تعالى تحت قوله (وإياك نستعين).
وقيل: إن أعرابياً وقف بالموقف (4) فقال: إلهي إليك خرجت وأنت أخرجتني، ولك وقفت وأنت أوقفتني، وقد عصيت أمرك، وأنت خذلتني، ومع ذلك لا عذر لي ولا حجة، فإن رحمتني وعفوت عني، فأنت أهل الإحسان، ولا فقير لك أفقر مني يا سيدي ويا مولاي.
واعلم أن الله تعالى كلَّف العباد صدق الافتقار، كيلا يتجاوزوا حد العبودية إلى حد الربوبية، ومن الإرادات العقلية إلى الإرادات الهوائية، ومن الصفاوة الروحية


إلى الكدورة النفسية، ومن الهمم العلوية إلى الهمم السفلية.
قال الله تعالى لنبيه الأعظم عليه الصلاة والسلام: (ليس لك من الأمر شيء)(1)، وقال سبحانه: ( قل إن الأمر كله لله) (2) وقال: ( بل لله الأمر جميعاً)(3) وقال: ( ألا له الخلق والأمر)(4)، نعم صلاح العبد بالافتقار، نعم الاستعانة بالمستعان، نعم سبب الوصول إلى طريق الهداية واللحوق بأهل الولاية الافتقار.

الحديث الثلاثون
[ إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل]

أخبرنا الشيخ الثقة العارف بالله تعالى خالي أبوبكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي رضي الله عنه: " قال: أخبرنا أبو غالب محمد بن عبدالواحد القزاز، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، قال: أخبرنا إسحاق بن سعيد، قال: أخبرنا محمد بن هارون، قال: أنبأنا أو آمنة محمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن سابق، قال: أخبرنا إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل" (1). وهذا الحديث الشريف فيه من إعظام مناجاة الله الغاية، فإن العبد إذا صلى ناجى ربه، سيَّما في يوم الجمعة ومشهدها، فإنه من أعظم مشاهد الحضرة. والاغتسال عبارة عن غسل القلب والقالب من الوجودات، هذا مع ما فيه من فضيلة التطهر الشرعي، وهذا سر من أسرار الاغتسال، ولم يكن من حكم شرعي إلا فيه من الأسرار الباطنة والظاهرة ما تحيّر(2) له العقول.

أي بني، اعلم أن مَن نظر في حسن تدبير الله تعالى، ولطائف صنعه، وكمال قدرته في كل شيء، علم أنه تعالى قائمٌ على نفسه بما كسبت، وأن نواصي العباد بيده، يقلبهم كيف يشاء، وأن سعادتهم وشقاوتهم (1) في ماضي حكمته، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، فمتى تحقق ذلك اعتصم بالله، واستسلم له، وفوض الكُـلّية إليه، وقام بقدم الاضطرار بين يديه، وبقي بلا حول ولا قوة، ولا اختيار ولا تعليق، ولا تدبير ولا سؤال، فإن راحة الدارين وسرورهما في الاعتصام بالله، وهمومهما في الاعتصام بغير الله، ورؤية الحول والقوة بالنفس، ألا ترى قول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله)(2) ومعاملة الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام في التيه مكافأة لقوله: (لا أملك إلا نفسي وأخي) (3) وقيل في معنى قوله تعالى: ( فاخلع نعليك)(4) أي اخلع عن قلبك أهلك وولدك وكل ما سوى الله(5)، ثم قال تعالى: ( وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي) (6) أضافها إلى نفسه، قال ما تصنع بها قال: (أتوكؤا عليها)(7) فقال له: ( ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى)(Cool

قال الله تعالى: يا موسى هذه التي قلت أتوكأ عليها صارت عدوة لك، لتعلق قلبك بغيري، فرجع موسى بقلبه إلى الله تعالى، فلما علم ذلك منه: (قال خذها ولا تخف)(1) وقال لنبينا عليه الصلاة والسلام: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)(2).
يقول الله تعالى: " ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماء من يديه، ووكلته إلى نفسه، وما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي دون خلقي إلا أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني"(3) وبلغنا أن الله تعالى أوحى إلا داود عليه الصلاة والسلام: وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاعي فوق خَلقي، لا يعتصم عبد من عبيدي بي دون خلقي، فأعلم ذلك من قلبه فيكيده السموات السبع ومَن فيهن، والأرضون السبع ومَن فيهن، إلا جعلت له من ذلك مخرجاً، وعزتي وجلالي، وعظمتي وارتفاعي فوق خَلقي، لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، فأعلم ذلك من قلبه، إلا قطعت عنه الأسباب، ثم لا أبالي في أي واد


أهلكته، وأملأ قلبه شغلاً وحرصاً، وأملاً لا يبلغه أبداً".(1)
وفي الخبر:" من اعتصم بالله واستعان به، أحوج الله إليه الناس، وأنطقه بالحكمة، وجعله من ملوك الدارين، ومن اعتصم بمخلوق دونه، ووكل إليه قلبه، عذبه الله، وقطع عنه أسباب الدنيا والآخرة".
وروي أيضاً: " تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، وأقبلوا إلى الله تعالى بقلوبكم، واعتصموا به في جميع أموركم، لأن العبد إذا أقبل إلى الله بقلبه، أقبل الله بقلوب العباد إليه، ومن يعتصم بالله كفاه الله كل مؤنة".(2)
قيل ليحيى بن معاذ: متى يكون الرجل معتصماً بالله؟ فقال: إذا قطع قلبه عن كل علاقة موجودة ومفقودة، ورضي بالله وكيلا. وروي أن الله تعالى قال لداود عليه الصلاة والسلام: ما يتعبد المتعبدون، ولا يتقرب المتقربون بشيء أبلغ عندي من الاعتصام والتسليم.
وقال عامر بن قيس(3) لأحد العارفين: ادع الله لي: فقال: لقد استعنت بمن هو أعجز منك، أطع الله واعتصم به، يعطك أعظم ما يعطي السائلين. وقال: فيما


أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام: إن أردت أن تكون قائداً لأهل الدنيا، وسيداً في المنظر الأعلى فكن مستسلماً راضياً بحكمي.
وقال الفضيل بن عياض (1): إني لأستحي من الله أن أقول إني معتصم بالله، لأن من اعتصم بالله لا يخاف مَن دونه، ولا يرجو غيره، ويقطع قلبه عن علائقه في الدارين.
وقيل في معني قوله: ( إنا لله) الآية، أي نحن عبيد الله وإماؤه، نتقلب في مشيئته وقضائه، ونَواصي العباد بيده (وإنا إليه راجعون)(2) بالرضا عنه، والتسليم له والاعتصام به، والتفويض إليه، وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: ( اذهب إلى فرعون إنه طغى)(3)، فقال يا رب أهلي وغنمي. قال الله تعالى: إذا وجدتني فأي شيء تصنع بغيري؟ يا موسى اذهب واعتصم، واستسلم لي وفوِّض الأمورَ إليّ، فإني جعلت الذئب راعياً لغنمك، والملائكة حافظين لأهلك، يا موسى مَن أنجاك من اليم حين ألقتكَ أمك فيه؟ ومَن ردَّكَ إلى أمكَ بعده؟ ومَن أنجاكَ من عدوكَ فرعون حين قتلتَ نفساً، ومن أنجاك من المفازة حين فررت من فرعون؟ وهو يقول في ذلك كله: أنت أنت.
واعلم أن مَن اعتصم بغيره أو بشيء دونه فهو مخذول، خارج من حد العبودية، لأن حد العبودية ترك الاختيار إلى الجبار.
قال الله تعالى: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(4)، (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)(5) وقال: ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو)(6) وقال تعالى: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)(7)


وقال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)(1)
واعلم أن العبودية مبنية على عشر خصال: الاعتصام بالله في كل شيء، والرضا عن الله في كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء، والفقر إلى الله في كل شيء، والإنابة إلى الله في كل شيء، والصبر مع الله في كل شيء، والانقطاع إلى الله في كل شيء، والاستقامة بالله في كل شيء، والتفويض إلى الله في كل شيء، والتسليم له في كل شيء.
واعلم أن التسليم والاستسلام، شعبتان من شعب الإيمان والمعرفة، التسليم هو تسليم الكُـلّية إلى السلام بالسلامة بلا تخليط، والاستسلام هو أن يستسلم راضياً بجميع ما ينزل عليه منه.
































الحديث الحادي والثلاثون
[ أفلا أكون عبداً شكوراً]

أخبرنا شيخنا الجليل أبوالفضل علي القاري القرشي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبوالحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، قال أنبأنا أبو عبدالله محمد بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا صدقة بن الفضل قال: أخبرنا ابن عيينة، قال: حدثنا زياد هو ابن علاقة أنه سمع المغيرة يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: "أفلا أكون عبداً شكورا؟ " (1).
في هذا الحديث الشريف من الإلزام بالقيام بواجب العبودية غاية الغاية عند مَن يعقل، فإن السيد الأعظم، والكنز المطلسم صلى الله عليه وسلم (2)، حالة كونه سِرّ الوجودات، وسبب الموجودات، والبرزخ الوسط بين الخَلق والخالق، قد فعل في مقام عبديته ما تورّم له قدماه الشريفان، فأين نحن؟ هات أيها العارف، ابذل مهجتك اتباعاً لهذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وامحق كُلّك في اليوم والليلة ألف مرة، وأنت بعدها مقصر، العبودية وصف العارف المحض.

أي بني، قد ذكر الله تعالى في كتب الأنبياء نعت الأصفياء، يقول الله تعالى: عبدي بي وجدتني، وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة، وبي صرت من أهل خدمتي، وبي تعرفني وبي تذكرني وتثني عليّ، وبي تتلذذ بذكري، وبي قصدتَ صحبتي، وبي قدرت أن تنظر في الآخرة إلى وجهي، عبدي نفسك لي، وروحك لي، وقلبك لي، وكُلِّيتك لي، فإن أعطيتني الكل أعطيتك الكل، وكنت لك مع الكل.
وفي الخبر: أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: مَن الذي دعاني فقطعت رجاءه؟ ومن الذي قرع بابي فلم يفتح له؟ أنا الذي جعلت آمال خَلقي بي متصلة، وعندي مدّخرة، يا داود ما لعبدي يُعرض عني وأنا أقول إليّ، يا داود أنا محلُّ الآمال، أنا الذي جعلت طيران قلوب المشتاقين نحوي، وجعلتها في الأرض مواضع نظري، وأطلقتُها إليّ حتى تزداد شوقاً إليّ، وقرباً مني، يا داود بشِّر أوليائي وأحبائي بأني كل ساعة أُريهم كرامتي، ولطائف صنعي، وحسن امتناني عليهم، حتى لا ينسَوني، ولا يميلوا إلى غيري، وشوقتهم إليّ حتى لا يصبروا عني، وفتحت لهم أبواب أُنسي، واستجبت لهم قبل أن يدعوني، وأعطيتم قبل أن يسألوني، يا داود فوعِزَّتي وجلالي لأقعدنهم في الفردوس، لأمكننَّهم من رؤيتي حتى أرضى عنهم ويرضوا عني.
يا داود أخبر أهل الأرض بأني حبيبٌ لمَن أحبني، وجليسٌ لمن جالسني، ومؤنسٌ لمن أنِسَ بي، وصاحبٌ لمن صاحبني، ومطيعٌ لمن أطاعني، ومختارٌ لمن اختارني، وقل لعبادي هلمّوا إلى مصاحبني ومؤانستي، وسارعوا إلى محبتي وقربي.
اعلم يا داود أني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي، ويحيى زكيّي، ومحمد حبيبي، يا داود هل رأيت حبيباً يبخل على حبيبه، يا داود ألا إن طال شوق الأبرار إلى لقائي، فإني إليهم لأشد شوقاً، ألا مَن طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني.
يا داود إذا كان الغالب على عبدي الاشتياق لي، والاشتغال لي، جعلت

راحته ولذته في ذكري وعشقته، ورفعت الحجاب بيني وبينه، أحبه ويحبني، حتى لا يغفل إذا غفل الناس، ولا يسهو إذا سها الناس، ولا يلهو إذا لها الناس، أولئك الأبرار حقاً، يا داود إن طلبتني وجدتني، وكفيتك الأسباب، ولم أطالبك بالحقوق، وإن طلبت غيري شغلتك بالأسباب، وطالبتك بالحقوق، يا داود إني جعلت محبتي لمن لا ينساني بلسانه وقلبه، فإنه لا شيء أنقص عندي من الغفلة والنسيان.
يا داود إن رضيت عني رضيت عنك، وإن أفردتني بالحاجة أفردتك بالإنجاح، وإن شكرتني صيرتك ملكاً في الدارين، يا داود من لم يصبر على بلائنا لا يفزع إلينا، يا داود إني إذا أحببت عبداً من عبيدي ملأت قلبه خوفاً مني، وتشوقاً إلى لقائي، وحرصاً على طاعتي.
يا داود أوليائي في قبابي لا يعرفهم إلا أوليائي، فطوبى لأوليائي وطوبى لأحبائي، يا داود إني لا أنسى مَن ينساني، فكيف أنسى من يذكرني، يا داود إني أجود على مَن يبخل عليّ، فكيف أبخل على من يجود بي، يا داود إني أحب مَن يبغضني، فكيف أُبغض مَن يحبني، يا داود بشِّر عبادي السائلين، بأني بهم رؤوفٌ رحيم، يا داود كل حبيبٍ يحب خلوةَ حبيبه، وأنا مُطلع على قلوب أحبائي، قل للمتلذذين بذكري: هل وجدتم ربا أبرَّ مني؟ يا داود مَن أطاعني وهو يحبني أُسكنه(1) جنتي، وأُريه وجهي، ومَن عصاني ولم يحبني أدخله ناري، وأحلُّ عليه سخطي، يا داود وعزتي وجلالي لا يجاورني إلا مَن طلب جواري.
يا داود كذب من ادعى محبتي وإذا جَنَّ عليه الليل نام عني، يا داود مَن عرفني أرادني، ومن أرادني طلبني، ومن طلبني وجدني، ومن وجدني لا يختار حبيباً سواي. يا داود مَن طلبني قتلته، ومن أحبني ابتليته، ومن هرب مني أحرقته. يا داود بشر المذنبين بأني غفور، وأنذر الصديقين بأني غيور. يا داود من لقيني وهو


يخافني لم أعذبه بناري، ومن لقيني وهو يحبني لم أحزنه بفراقي، ومن لقيني وهو مستحي مني لم أخجله يوم يلقاني. يا داود جنتي لمن لم يقنط من رحمتي، وغضبي عن مَن أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو عاجلتُ أحداً بالعقوبة إذاً عاجلت القانطين من رحمتي، وما العجلة من شأني، فها أنا مطلع على قلوب أحبائي، إذا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، فخاطبوني علي المشافهة، وكلموني على الحضور.
يا داود لولا أني ربطت أرواح أحبائي في أبدانهم، لخرجت الأرواح من أبدانهم شوقاً إلى لقائي، يا داود إن من عبادي عباداً جعلتهم للخير أهلاً، وجعلت لهم المؤانسة نصيباً، طوبى لهم وحسن مآب.
ورُوي أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام: إني قضيتُ على نفسي أن لا يحبني عبدٌ من عبادي أعلم ذلك من قلبه إلا كنت سمعه وبصره ولسانه، وأُبغض إليه كل شيء، وأمنعه شهوات الدنيا ولذاتها، وطيب عيشها، وأطلع عليه في كل يوم سبعين ألف مرة، وأزيد له كل ساعة لذائذ حبي، وحلاوة أنسي، وأملأ قلبه نوراً مني، حتى ينظر إلى كل ساعة فأمسح برأسه، وأضع يدي على ألم قلبه، حتى لا يشكو منه، وأنا أسمع خفقان قلبه من الشوق إلى لقائي، والخوف من قطيعتي، وهو يقول: حقيق عليّ أن لا يسكن قلبي حتى أصل إليك يا ربي، يا يحيى وكيف يسكن قلب المشتاق وأنا غاية مُنيته، ومنتهى أمله، وهو كل ساعة يتقرب إليّ وأتقرب إليه، وأسمع كلامه، وأعلم أسفه، وأحب صوته؟ فوعِزَّتي وجلالي، لأنقبنه يوم القيامة منقباً (1) يغبطه الأولون والآخرون، ثم آمر منادياً ينادي من تحت عرشي: هذا فلان ابن فلان ولي الله وصفيُّه، دعاه الله ليُقِرَّ عينه، ثم آمر برفع الحجاب حتى ينظر حبيبي إليّ، وأقول: السلام عليك عبدي ووليي أبشِّرك.


قال: فغشي على يحيى فلم يفق ثلاثة أيام، فلما أفاق قال: سبحانك سبحانك ما أكثر توددك إلى أوليائك وأصفيائك، لا يفصل عنك الأمل، يا خير صاحب وأنيس، فنعم المولى أنتَ ونعم النصير. وروي أن الله تعالى قال في بعض كتبه: " إذا كان الغالب على قلب عبدي الاشتغال والأنس بي، رفعت الحجاب بيني وبينه في الباطن، حتى كأنه ينظر إليّ (1)".
ورُوي أن الله تعالى قال في بعض الكتب: وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمِّل غيري بالإياس، يؤمل عبدي غيري والخير كله بيدي، مَن الذي أملني فقطعتُ عنه أمله، ومن الذي رجاني فخيبت رجاءه، ومن الذي قرع بابي بالدعاء فلم أفتح له؟ عبدي تنعم بذكري، فإني نعم الحبيب لك في الدنيا والآخرة، عبدي ستذكرني إذا جربت غيري بأني لك خير من كل ما سواي، عبدي ما استحييت مني أن أعرضتَ وجهك عني، وتُقبِل على غيري؟ عبدي إلى أين تذهب وطريق الوسيلة إليّ لا إلى غيري، عبدي أين مَن دعاني فلم أجبه، وأين مَن سألني فلم أعطه، عبدي بابي لك مفتوح، عطائي لك مبذول، وأنا أرحم الراحمين.
وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: حقَّت محبتي للمتحابين من أجلي، وحقت محبتي للمتواصلين من أجلي، وحقت محبتي للمتزاورين من أجلي، يا موسى إن ذكرتني ذكرتك، وإن رضيت عني رضيت عنك، وإن كنت لي فرداً كنت لك الفرد، وإن لم تردَّ على حكمي واليتك واصطفيتك، وقرَّبتُ مقعدك مني، يا موسى إذا خِفتَ فخفني حتى أؤمنك، وإذا أحببتَ فأحبني حتى أحبك، وأحببك إلى قلوب الصالحين، وإذا نظرت فانظر إليّ حتى أنظر إليك من فوق عرشي.
وروي في بعض الأخبار أن الله تعالى يقول يوم القيامة لأوليائه: يا أوليائي طالما لحظتكم، ورأيتكم في دار الدنيا وقد غارت أعينكم، وقلصت شفاهكم، وخفت بطونكم، فكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية، أوليائي وأحبائي


جزائي لكم أفضل البذل، وفضلي لكم أوفر الفضل، ومعاملتي إياكم أحسن المعاملة، ومطالبتي إياكم أشد المطالبة، أنا مؤنس القلوب، وأنا علاّم الغيوب.


الحديث الثاني والثلاثون
[ المتوكل، صلى الله عليه وسلم ]

أخبرنا شيخنا الشيخ الجليل أبوالفضل علي الواسطي قال: أنبأنا أبوالحسن عبدالرحمن الداودي قال: أنبأنا أبومحمد عبدالله السرخسي قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا عبدالله بن مسلمة، قال: حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة عن هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن هذه الآية التي في القرآن: ( يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)(1) قال في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً. وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقلوباً غُلفاً (2). ولنا بهذا السند عن البخاري قال: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا عبدالله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: :" الرحم شجنة


من الرحمن، فقال الله: مَن وصلكِ وصلته، ومن قطعكِ قطعته" (1).
فالحديث الأول أفاد أن الله يُسعف نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يقوِّم العوجاء بكلمة لا إله إلا الله، والحديث الثاني أفاد أن الرحم من أشعة نور الرحمن، مَن وصلها اتصل، ومَن قطعها انقطع، والجمع بين السرّين في الحديثين، هو فتح القلب والعين والأذن بالتوحيد الخالص وإيصال القلب بالرحمن، بحبل الرحمة والشفقة على الخَلق، وبهذا تَعيَّن الأقرب فالأقرب، يفهم ذلك العارف، فكلمة التوحيد تفيد الإيمان بالله، وصلة الرحم تفيد التخلق بخُلُق الله، وهو الرحمن، وإليه المرجع في المَبطن والعِيان، وبه المستعان، وعليه التكلان، وما ذاك إلا لإعظام أمر الله، وهو من إعظام الله.
قال يحيى بن معاذ: اعرف حُرمة من لا تعرف الفضلَ إلا منه، ولا ترجو الراحةَ إلا منه، واستحي منه حق الحياء، واذكر امتنانه إذ خلقك ولم تكُ شيئاً، وزيّنك بنور المعرفة، حتى كأنك لم تزل تعرفه، ولولا فضله ورحمته عليك، كيف كنت تعرفه بأنه مولاك، من غير أن تراه بعينك؟ ثم طَهَّرَ سرّك وضمائرك من الشك والشبهة والنفاق، وألبسك من أحسن لباسه، وتوَّجَك بتاجه بلا سؤال، ثم دعاك إلى دار السلام، ويقال: لا يزال المؤمن عظيماً ما أعظم الله، وعظَّم أمره، وعظّم أولياءه، وعرف قدرهم وحرمتهم.
وحُكي أن رجلاً من ملوك الدنيا قال لشقيق(2) سل حاجتك قال: إني


لأستحي من ربي أن أسألك، ومولاي ناظر إليّ يقول سَل حاجتك بلا حشمة، حتى أرضى عنك، ولا تسأل غيري فأمقتك. ودخل على رابعة البصرية (1) جماعةٌ من الزهاد وفيهم سفيان الثوري (2)، فرأوا لها حالة رثة، فقال لها بعضهم: أما تُرسلين إلى بعض مواليك ليعطيك شيئاً؟ فقالت: والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا ممن يملكها، فكيف ممن لا يملكها. وقيل لأبي عبدالله: ما صفة المريدين؟ قال: أن يكونوا مع الناس بأبدانهم، وقلوبهم تحت العرش كأنهم يرون ربهم فوق عرشه، ويستحيون أن يسألوه شيئاً سواه.
وفي الخبر: " أرأيتم سليمان وما أعطي من الملك، فإنه لم يرفع رأسه إلى السماء، تخشعاً لله وحياءً منه، حتى قبضه الله" (3). وقال عامر بن عبد قيس(4) ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه، وأنَّ نظره إليّ قبلَ نظري إلى ذلك الشيء. وكان يحيى بن معاذ رحمه الله إذا قرأ : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(5) قال: إلهي هذا قربك إلى أعدائك، فكيف قربك إلى أوليائك؟
وقال شهر بن حَوشب (6) رحمه الله: ما رأيت إبراهيم التيمي (7) رافعاً رأسه وبصره إلى السماء قط، حتى قبضه الله حياءً منه، ومرض العارف داود


الطائي (1) رضي الله عنهوهو في جوف بيته، فقيل له: لو خرجتَ إلى صحن الدار حتى تهب عليك ريح الهواء، قال: إني لأستحي من الله أن يراني وأنا أطلب الراحة لنفسي في الدنيا. ويقال: كان في مصر رجل مجذوم فقال: إنه يعرف اسم الله الأعظم، فقيل: له: لو دعوت الله باسمه الأعظم أن يكشف عنك هذا البلاء؟ قال: إني لأستحي منه أن يكون لي مراد بخلاف مراده.
وكان سيدنا الإمام الحسين بن الإمام علي عليهما السلام، إذا توضأ ليصلي أصفر لونه، وارتعدت فرائصه، فقيل له في ذلك، فقال: حُقَّ لمن وقف بين يدي رب العرش أن يتغير لونه حياءً من إجلاله. وكان مسلم بن يسار (2) يصلي، فانهدمت زاوية المسجد ولم يشعر. وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ترتعد فرائصه عند قضاء أمانة لم تحملها السموات والأرض، وهي الصلاة. ولدغت امرأةً حيةٌ في أربعين موضعاً ولم تشعر، من حلاوة الصلاة.
وكان مسلم بن يسار يصلي، فوقع الحريق في بيته، وفزع الناس إليه، حتى أطفؤوها ولم يشعر. قال الجريري (3) إني لأستحيي من الله أن أنام تكلفاً حتى يصرعني النوم. وحكي أن معاذة بنت عبدالله (4) ما رفعت بصرها إلى السماء أربعين عاماً، وكانت تقول: عجبت لعين تنام، والحبيب إليها ناظر، وربما كانت تتفكر في جلالته وعظمته، حتى يُغشى عليها. وكان داود عليه الصلاة والسلام لا يرفع رأسه إلى السماء هيبةً من إجلاله تعالى. وقال ابن سنان (5): ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً حتى ألقى في قلبه إجلالاً منه، بحيث يسمع خفقان قلبه كالطير في الهواء.
علامة السعداء ثلاث: التمسك بسنة النبي المختار صلى الله عليه وسلم ، والصحبة مع


الأولياء الأخيار، والحياء من الملك الجبار، ومكتوبٌ في الزبور: يا داود إني لأستحيي من عبدي أن أرده إذا دعاني، وإن عبدي لا يستحيي أن أدعوه فلا يجيبني.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (1) قال الفضيل: إلهي ارحم مَن لو عقل لم يتكلم من الحياء. وحكي أن عامر ابن قيس كان يصلي، فاكتنفته السباع، فلما انفلتَ من صلاته مسح ظهورهم بيده، وقال: أنتم كلاب الله، وأنا عبد الله، فقيل له: هل هِبتَ منهم؟ قال: إني لأستحيي من ربي أن أهاب شيئاً دونه.
وقال صالح المُرّي (2): رأيت ربي في المنام ليلة، قلت: لبيك لبيك، وصرت كالبعوضة من إجلاله، فقال: يا صالح إني لخبير بالمريدين، وإني أسمع أنينهم، وأرى حركاتهم، وإني لمطلع على سرائرهم وضمائرهم، قال: فدهش عقلي حياءً منه. وحُكي أن الحسن البصري صعد موضعاً يؤذن للصلاة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله غُشي عليه من إجلاله.
وقالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه" (3) وقال بعض أهل المعرفة في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " جُعلت قرة عيني في الصلاة (4)، لم تكن الصلاة قرة عينه،


ولكن إذا قام للصلاة رأى فيها ما تقرُّ عينه، لقوله: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه".
وقال الفضيلُ بن عياض: صليتُ خلف ذي النون صلاة العصر، فلما أراد أن يكبِّر، رفع يديه وقال: الله، فبهت (1) وبقي كأنه جسد لا روح فيه من إجلاله، ثم قال: أكبر، فظننت أن قلبي ينخلع من هيبة تكبيره.

قل حياء الناس من ربهم يخافُ أن يمقته أهلُهُ
ليس يبالي الخبثَ في ثوبِهِ فكلهم يُظهرُ تقواهُ
مَن بالى (2) في عاجل دنياهُ ولا يبالي مَقتَ مولاهُ

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالثلاثاء 17 يوليو 2012, 4:09 am

الحديث الثالث والثلاثون
[ اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ...]

أخبرنا شيخنا القاضي المقري القدوة الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن علي، قال: أنبأنا عمر بن أحمد، أنبأنا شاهين، قال: أنبأنا عبدالله البغوي، قال: أنبأنا عبدالله بن عمر القواريري، قال: أنبأنا زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: ( اللهم بارك في رجب وشعبان وبلغنا رمضان (1)).
في هذا الحديث الشريف معانٍ كثيرة، منها طلب فسحة الأجل لصالح العمل، ليكون العمر الله، والعمل فيه لله، وكذلك مقاصد العارفين بالله، الوارثين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حال أهل التقوى.
أي بني، اعلم أن التقوى على وجهين: خاص وعام، فأما التقوى الخاص فالاتقاء بالسر عن الهِمّة والمُنْية من غير ذات الله تعالى، حيث قال الله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته)(2)، وأما التقوى العام فالاتقاء بالظاهر عن جميع ما كره الله تعالى، قال الله سبحانه ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته)(3)، والله تعالى جعل الفَرَجَ والمخرَجَ من الهموم، واليُسر والسَّعة في التقوى، لقوله تعالى: ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً)(4)، وقوله تعالي: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً)(5) الآية.

قيل في معناه: ومن يتق الله في أداء الطاعة، يجعل له مخرجاً من غبار الذنوب والزلات، ويرزقه النجاة من العقوبات، من حيث لا يحتسب. ومعنى آخر: ومن يتق الله عند الإنابة بالحُجة، يجعل له مخرجاً من شِدّةِ المحاسبة، ويرزقه سلامة الدارين من حيث لا يحتسب. ومعنى آخر: يجعل له مخرجاً من جميع الاشتغال بغير الله، ويرزقه حياة طيبة، من حيث لا يحتسب. ومعنى آخر: من يتق الله بترك المحارم والشبهات، يجعل له مخرجاً من الإرادات والشهوات، ويرزقه حلاوة الطاعة من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله عند قول الحق، ولا يخاف لومة لائم، يجعل له مخرجاً من مكر الناس ومكائدهم، ويرزقه الظَّفَر من حيث لا يحتسب، ومَن يتق الله بترك التعلّق بغير الله يجعل له مخرجاً من عبودية ما سواه، ويرزقه الصدق والإخلاص من حيث لا يحتسب.
يروى أن أبا هريرة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: يا أيها الناس إني جعلت نسباً، وأنتم جعلتم نسباً، إني جعلت أكرمكم أتقاكم، وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم، وإني أرفع اليوم نسبي وأضع نسبكم، فأين المتقون، اليوم لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" (1)
وقال صلى الله عليه وسلم : " الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات سلم دينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" (2) فـ " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(3).

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ما قبل منكم إلا بورع صادق. وقال وهب بن منبّه(1): مَن وضع شهواته تحت قدميه، فرَّ الشيطان من ظله، ومن غلب عقلُه هواه فذاك الصابر الغالب.
وقيل لرجل من أهل التقوى: من أين جئت؟ قال: ما سؤالك عن شيء لا ينفعك معرفته، ولا يضرك جهله، فاشتغل بما يعنيك عما لا يعنيك، فقيل له: ما رأس التقوى؟ قال: أن تحفظ نفسك من الشهوات، وحلقك من اللذات، وقلبك من الغفلات.
وقال: اتق الله الذي آخذ آدم بلقمة، وموسى بلطمة، وداود بنظرة، ويوسف بهِمّة، ونوحاً بدعوة، ومحمداً بخطرة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال عبيد بن عمير (2): لا ينبغي لمن تزين بلباس الورع والتقوى أن ينظر إلى زهرات الدنيا، ويتكلم بما لا يعنيه.
وقال جعفر الخلدي(3): بلت في أصل حائط، فهتف بي هاتف: تدَّعي التقوى وتبول في أصل حائط غيرك؟
وحُكي أن ابن المبارك (4) ارتحل من مَرْوَ إلى الشام، من أجل قلم كان قد استعاره فلم يرده إلى صاحبه، وفي الخبر: لا تفضلوا أحداً على أحد إلا بالورع والتقوى، لأنهما أفضل الأعمال.

وقال أُبيّ بن كعب رضي الله عنه (1) ما من أحد ترك شيئاً لله إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب. وقال ابن سيرين(2): حرامٌ على كل قلب فيه حب الدنيا أن تسكن فيه التقوى. وقال عمر بن عبدالعزيز (3) رحمه الله: القليل من الورع، خير من صلاة أهل الدنيا.
ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: إلهي خلقتَ آدم بيدك، وأدخلته الجنة، وفعلت به ما فعلت من الإحسان، ثم أخرجته منها بزلة واحدة. فقال: يا موسى أما علمت أن جفاء الحبيب شديد، ما يحتمل من الأعداء.
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ ولكنَّ التقيَّ هــــو السعيدُ (4)

الحديث الرابع والثلاثون
[ مَن وُلد له مولود فسماه محمداً]

أخبرنا شيخنا القاضي القدوة أبو الفضل علي الواسطي، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد، قال: أنبأنا أبو عبدالله الحسين، قال: أنبأنا أحمد بن بكير بن حامد، عن حمّاد العسكري، عن إسحاق بن سيار، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن وُلد له مولود فسماه محمداً تبركاً به، كان هو ومولوده في الجنة"(1).
في هذا الحديث الشريف مِن سِرِّ الحب له صلى الله عليه وسلم ما يفهمه أهل الخصوصية، فإنهم بذكر اسمه المبارك ترتاح هممهم للتخلق بأخلاقه الزكية، وللتشبث بأذياله، فتراهم لا تقف هممهم في طريق متابعته وقفة المشغول بالدنيا، بل هم متنبهون خاشعون، ومن الله خائفون، ولنبيهم متبعون، وبسنته عاملون، وأولئك هم العارفون.


أي بني، اعلم أن أهل المعرفة يبكون إذا ضحك أهل الغفلة، ويحزنون إذا فرح أهل الغِرَّة، قال الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(1) وقوله: (وجوه يؤمئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة)(2) وأن الله تعالى ذكر من دلائل المعرفة ومن علامات العارفين كثرة البكاء وسيل الدموع، قال (ويخرون للأذقان يبكون)(3) وذم أهل الغفلة بالضحك وترك البكاء في قوله (أفمن هذا الحديث تعجبون) (4) الآية.
واعلم أن البكاءَ بكاءُ العين، وبكاءُ القلب وبكاء السر، فأما بكاءُ العين فهو لأهل المعرفة من المنيبين، وأما بكاء القلب فهو لأهل المعرفة من المريدين، وأما بكاء السر فهو لأهل المعرفة من المحبين.
واعلم أن لأهل المعرفة هموماً مخبوءة تحت أسرارهم، مستورة عن أفكارهم فكلما هاج من أسرارهم رياح خشية الهيبة، ومن قلوبهم لهب نيران الأحزان، أحرقت ما عليها من هشيم الغفلة والنسيان.
والبكاء على خمسة أوجه: بكاءُ الحياء، مثل بكاء آدم، وبكاء الخطيئة، مثل بكاء داود، وبكاء الخوف مثل بكاء يحيى بن زكريا، وبكاء الفقد، مثل بكاء يعقوب، وبكاء الهيبة، مثل بكاء سائر الأنبياء، وهو قوله تعالى (إذا تتلى عليهم ءايت الرحمن) (5) الآية.
وبكاء سادس: مثل بكاء شعيب ذلك بكاء الشوق والمحبة، بكى شعيب حتى ذهب بصره، ثم رُدَّ إليه بصره، فبكى حتى ذهب بصره، ثلاث مرات، فأوحى الله تعالى إليه: أن يا شعيب إن كان بكاؤك من مخافة النار فقد أمنتك من النار، وإن كان بكاؤك من أجل الجنة فقد أوجبت لك الجنة. فقال:

لا يا رب ولكن من الشوق إلى رؤيتك، فأوحى الله إليه: أن يا شعيب حَقَّ لِمَن أرادني أن يبكي من شوقي، إنه ليس لهذا دواء غير لقائي، ويروى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " لو أن عبداً بكى من خشية الله في أُمّة لرحم الله تلك الأمة ببكائه"(1).
وقالت رابعة: بكيت عشر سنين عن الله، وعشر سنين بالله، وعشر سنين إلى الله. فأما ما هو بالله فالرجاء به وأما ما هو عن الله فالخوف منه، وأما ما هو إلى الله فالشوق إليه. وقال بعضهم: دخلت على رابعة البصرية فإذا هي ساجدة، فجلستُ عندها حتى رفعت رأسها، فإذا في موضع سجودها ماء واقف من دموعها، فسلمتُ عليها فردت علي السلام، وقالت: ما حاجتك ؟ قلت: أريد زيارتك، فبكت ثم صرفت وجهها عني، وكانت تبكي وتقول: قرة عيني لابد لي منك، فالعجب ممن عرفك، كيف يشتغل بغيرك، والعجب ممن أرادك، كيف يريد غيرك؟
وكان عطاء السلمي (2) كثيراً ما يقول في بكائه" اللهم ارحم انقطاعي إليك، وإعراضي عن سواك، وغربتي في بلادك، ووحشتي بين عبادك، ووقوفي بين يديك.
وقال الفضيل بين عياض: بينا أنا في الطواف، إذ أنا برجل قد تغير لونه، ونحل جسمه، وهو يبكي ويدندن (3) مع نفسه، فدنوت منه، فإذا هو يقول: إلهي قد أستأنست بك قلوبُ المحبين، واستراحت إليك قلوب العارفين، فلا تقطع منك آمال المشتاقين. قال: فسمعت هاتفاً يقول: يا وليّ لقد أبكيت السموات السبع، اسكت فإن لك ما سألت.
وروي أن آدم عليه الصلاة والسلام لما نزل من الجنة، بكى حتى نبت من دموعه النبات، فأوحى الله إليه: هذا البكاء على فوت الجنان، فأين البكاء على ترك

خدمتي؟ ففزع آدم إلى كلمة الإخلاص، فقال: لا إله إلا أنت سبحانك، قال الله تعالى: ( فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه)(1).
وقال ذو النون: رأيت بمكة رجلا يبكي بكاء العارفين، فدنوت منه وقلت: ألك حبيب؟ قال: نعم، قلت: حبيبك قريبٌ أم بعيد؟ قال: قريب، قلت: موافقٌ لك أم مخالف؟ قال: بل موافق لي، قلت: سبحان الله فلم تبكي؟ قال: أما علمتَ أن عذاب القرب والموافقة، أشد من عذاب البعد والمخالفة؟
وحكي أن رابعة كانت تمر يوماً في بعض طرق البصرة، فقطرت عليها قطرةٌ من الميزاب، فسألت عنها، فقيل: أنها من بكاء الحسن، قالت: قولوا للحسن لو ازددت بالدموع، حتى تصل العرش محبةً له، لكان قليلا.
وقيل لعبادة بن شميط بن عجلان: هل يبكي المنافق؟ قال: أما من الرأس فنعم، وأما من القلب فلا. قال الفضيل: إذا رأيت الرجل يبكي، وقلبه ساهٍ فهو بكاء منافق، وإن البكاء بكاء القلب.
قيل لمالك بن دينار (2): ألا تجئ بقارئ يقرأ بين يديك؟ فقال: إن الثكلى لا تحتاج إلى النائحة.
وقال كعب الأحبار (3) لأن أبكي دمعة من خشية الله أحب إليّ من أن أتصدق بجبل من الذهب. وكان مالك بن دينار كثيراً ما يبكي ويقول: يا نفس تريدين أن تجاوري الجبار، وتشاهدي المختار، بأي شهوة تركتِها، بأي بعيد قربته إلى الله، بأي ولي أحببته لله، بأي عدو أبغضته لله، بأي غيظ كظمته لله، لا والله لولا عفو الله ورحمته، ثم يغشى عليه. وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل البكاء من خشيتي.
وقال ثابت النساج رحمه الله: ما شرب داود عليه الصلاة والسلام شربة من الماء بعد الخطيئة إلى وكان نصفه دموعه حتى لحق بالله عز وجل، فقال يوماً من
الأيام فيما رأى من كثرة دموعه: أما ترحم بكائي يا إلهي؟ فنودي من السماء يا داود تذكر دموعك، ولا تذكر ذنبك؟ فأخذ برمض النار من الرماد، وصار يجعله على رأسه، ويقول: ذهب ماء وجهي عند ربي. وقيل: كان في عهد الحسن البصري رضي الله عنه رجل كان له ابنة تبكي حتى عميت عيناها، فجاء الرجل إلى الحسن ودعاه ليعظها، لعلها ترفق بنفسها، فأتاها الحسن وقال لها: ارفقي، فقالت: أيها الأستاذ إن عيني لا تخلو من وجهين، إما أن تصلح لرؤية ربي أو لا تصلح، فإن لم تصلح فحق لها أن تعمى، وإن كانت تصلح فألوف مثل عيني فداء لرؤيته، قال الحسن: جئتُ مداوياً فصرتُ مداوَى، وأتيتُ مطيّباً فوجدتُ طبيباً.
وقالت سلمة بنت خالد المخزومي رحمها الله: كانت امرأة من الشام ببيت الله الحرام، ويقال لها حزينة، أبداً تبكي من غلبة الشوق، وكلما نظرت إلى باب الكعبة، قالت: بيت ربي، بيت ربي، ففُتح باب الكعبة يوماً من الأيام، فرأت فيها طائفين يبكون، ويقولون: مليكنا وقرة أعيننا، طال شوقنا متى تكون ملاقاتنا، فسمعت تلك المقالة (1)، فصاحت صحية وخرت مغشياً عليها، ولم تزل تضطرب حتى ماتت.
وقال يحيى بن أصفر: دخلنا مع جماعة من أصحابنا على عفيرة العابدة(2)، وكانت عمياء من كثرة بكائها، فقال واحد منا: ما أشد العمى بعد البصيرة، فسمعت ذلك فقالت: يا أبا عبدالله عمى القلب عن الله أشد من عمى العين، وددتُ لو أن الله أعطاني كُنهَ محبته، ولم يُبق لي جارحة إلا أخذها مني
الليلُ داجٍ والعُصاةُ نيامُ
يتلون آياتِ الهدى ودموعُهم
لا يصبرون سُويعةً عن ذكرِهِ
والعارفون لدى الجليلِ قيامُ
تجري، ومنها قد تفيضُ سِجامُ
شوقاً وليس لمن يحب مَنامُ



الحديث الخامس والثلاثون
[ مَن أدّى حديثاً..]

اخبرنا شيخنا خالي أبو المكارم منصور الباز الأشهب البطايحي رضي الله عنه، قال أنبأنا أبو علي الحسن بن شاذان، قال: أنبأنا أبو نصر أحمد بن محمد بن أشكاب النجاري، قال: أنبأنا الحسن بن محمد بن موسى القُمّي، قال: أنبأنا عبدالرحيم بن جندب، عن إسماعيل بن يحيى بن عبيدالله، عن سفيان، عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: " مَن أدّى حديثاً إلى أمتي لتُقام به سنة أو لتُثلَم به بدعة فله الجنة" (1). ومن هذا الحديث الشريف يُعلم أن اهل الجنة القائمون بإقامة السنة، وإثلام البدعة، تجرداً لله تعالى، وتوكلاً عليه، وإيماناً به، وحباً له.
أي بني، اعلم أن حبيب القلوب سبحانه إذا أحب عبداً أطلع سره على جلال قدرته، وحرك قلبه بمراوح ذكر مِنّته، وسقاه شَربةً من كأس محبته، حتى يُسكره به عن غيره، وجعله من أهل أُنسه وقُربه وصُحبته، حتى لا يصبر عن ذكر ربه، ولا يختار أحداً عليه، ولا يُشغل بشيء دون أمره. وقال الشيخ أبو بكر الواسطي(2) رحمه الله: منزلة الحب أقدم من منزلة الخوف، فمن أراد الدخول في عصبة أهل المحبة، فليحسن الظن بالله، وليعظِّم حُرْمَتَهُ.


وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: أن يا داود أحِبني، وأحِبّ أحبائي، وحببني إلى عبادي، فقال داود: إلهي أحبك وأحب أحباءك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ فقال: ذكرهم آلائي، وحُسن لطائفي. وفي الخير: " إذا أحب الله عبداً من عباده نادى جبريل عليه الصلاة والسلام: يا أهل السماء والأرض، يا معشر أولياء الله وأصفيائه، إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبوه" (1).
وقال أبو عبدالله النسّاج (2) كل عمل لم يكن فيه محبة الله لم يُقبل. وقال: مَن أحبه الله ابتلاه بالمحن، فمن التفت منه إلى ما سواه صار محجوباً عنه، وسقط عن بساط أهل المحبة. وقال عبدالله بن يزيد (3) مررت برجل نائم في الثلج، وعلى جبينه قطرات من العرق، فقلت له: يا أبا عبدالله، أما تجد البرد؟ فقال: مَن شغله حب مولاه لا يجد البرد، قلت: وما علامة المحب؟ قال: استقلال الكثير من نفسه، واستكثار القليل من حبيبه، فقلت له: أوصني، فقال: كن لله يكن الله لك.
وقال محمد بن الحسين (4) دخلت سوق النخاسين لأشتري جارية، فرأيت جارية مشدودة على وجنتيها عصابة، مكتوب عليها: مَن أرادنا أفلسناه، ومن هرب منا وسْوسناه. فقلت: كذا قال الله تعالى لعباده: إن طلبتموني أنسيتكم بنفسي عن غيري، وأفنيتكم بي عن أنفسكم، حتى لا تروا شيئاً دوني.

قال: قرع واحد باب محبوبه، فقال مَن داخل الباب: مَن أنت؟ قال: أنا أنت، فقال يا أنا ادخل:
عجبتُ مِنكَ ومني
أدنيتني منكَ حتى
أفنيتني بك عني
ظننتُ أنك أنّي(1)



الحديث السادس والثلاثون
[ سمع الله لمن حمده]

أخبرنا شيخنا العارف بالله على القاري الواسطي، قال: أخبرنا أبو بكر الوراق، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن صاعد، عن أحمد بن عبد المؤمن، عن علي ابن الحسن المروزي، عن أبي حمزة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: ربنا ولك الحمد"(1). في هذا الحديث من أسرار الموافقة لداعي الله، الذي يرد شأنه على كل لسان، ما يفهمه أهل الذوق من أرباب المحبة.
أي بني، قيل لواحد: ما حقيقة المحبة؟ قال: الموافقة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، واجعل حبك أحب الأشياء إليّ" (2)، وقال الإمام أبو بكر الصديقرضي الله عنه: مَن ذاق من خالص حب الله استوحش عمن سواه، وترك لأجله كل ما يهواه. ويقال: جفاء العدو غمٌّ نازل، وجفاء الحبيب سمٌّ قاتل. وكان ذو النون المصري كثيراً ما يقرأ القرآن، ثم بعد ذلك يشتغل بالحديث، فسمع في المنام:


إن كنتَ تزعمُ حبي
أما تدبرتَ ما فيـ
فلِمْ هجرتَ كتابي
ـهِ من لطيفِ عتابي

قال/ فترك الحديث، وأقبل على قراءة القرآن.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً في الدنيا وأهلها، فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي. ويقال: أصل المحبة هو المَحْوُ، إلا أنها على ثلاثة مدارج: العام، والخاص، وخاص الخاص، فأما العام فمحو القلب عن حب الذنوب والمعاصي، والخاص محو القلب عن حب الدنيا وأهلها، وخاص الخاص محو القلب عن حب ما دون الله تعالى.
وقال يحيى بن مُعاذ في بعض مناجاته: إلهي لا تعذب قلباً أنتَ حبيبه، إلهي إن تعذبني عذبتَ مَن أحَبك، وإن أهنتني أهنتَ مَن أحبك، وإن أكرمتني أكرمتَ مَن أحَبك.
وحكي أن أبا يزيد تكلم يوماً بكلام أهل المحبة، فجاء طائر فلم يزل يدنو منه حتى جلس بين يديه، ثم ضرب بمنقاره على الأرض وسال منه الدم حتى مات.
وحكي أن واحداً من العارفين، مر برجل من العيّارين(1)، يضرب عبداً له بعود، والعبد يضحك في وجهه، فقيل له: يا هذا يضربك السيد بالسياط وأنت تضحك. قال: من حلاوة حبه لا أجد ألم الضرب، فصاح العارف، وخر مغشياً عليه.
وقال يحيى: ليس بصادق في حبه مَن لم يحفظ حدوده، ولم يعظم حرمته، ولم يعرف مِنَّته. وحكي أن رجلاً جاء إلى عبدالواحد بن زيد(2) فقال: أخبرني بأقرب

الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها عنده زلفى، فقال: أن تحب ما يحب الله، فقال: اشرح لي صفة المحبة، فبكى عبدالواحد وقال: أتحتمل؟ قال: ما شاء الله، فوصف له شيئاً من المحبة وحقائقها، فغُشي على الرجل، فلما أفاق قال: سبحان الله مَن يستأهلُ هذا، أو مَن يطيقُ الاستقامة على تحقيق المحبة؟ فقال: رُبَّ قلبٍ قصد محبوبه قصداً لا يدركه الريحُ العاصف، ولا البرق الخاطف، حتى وصل إلى محبوبه، قيل: أو هل يكون للمحب علامة؟ قال: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وكذلك المحبة إذا دخلت القلب، تلاشت النفس بكل ما فيها عن صفات الإنسانية، تحت سلطانها، فاحترق ما في القلب من غير الله بنيرانها.
قيل لبعضهم: ما بال المحبين كالمبهوتين؟ قال: لأنهم ذاقوا حلاوة محبته وسمعوا أصوات عجائب حسن دعوته، حتى طارت عقولهم وقلوبهم إليه، وصاروا مدهوشين به، هيهات أين الحب، وأين صفوة الحب، وأين حقائق الحب، وأين مَن يستحق الحب؟ ألا إنّ مَن أحَبَّه لا يصبر عنه طرفةَ عين.
إنَّ المُحبَّ نهارُهُ مستوحشٌ
فالعينُ منهُ قريرةٌ بحبيبِهِ
يا حُسنَ موكبهم إذا ما أقبلوا
بين العبادِ يسيرُ كالمُتفردِ
يرجو لقاءَ الواحدِ المتوحدِ
نحو الإلهِ مع النبي محمدِ

صلى الله عليه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
سيداحمدالعطار
خـا د م الـمـنـتـد ى
سيداحمدالعطار


عدد المساهمات : 904
تاريخ التسجيل : 11/12/2011
العمر : 61

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالثلاثاء 17 يوليو 2012, 4:11 am

الحديث السابع والثلاثون
[ لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا]

اخبرنا شيخنا أبو المكارم باز الله الأشهب خالي الشيخ منصور الأنصاري الحسيني برواقه في نهر دقلى، قال: أنبأنا أبو الحسن أحمد اشتُهر بابن الصلت، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي، قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا الفضيل بن موسى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"(1). أمر صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الشريف بقمع النفس، ومحق ثورتها، وصفعها بنعل الهمة، إذا تعدَّت طورها، بشأن إخوانها المسلمين، وألزم بالمحبة الخالصة، وجعلها عماد الإيمان، لأنها لله سبحانه وتعالى، وعلَّمنا وهو معلم الخير صلى الله عليه وسلم أن إفشاء السلام مُنتِجٌ للمحبة، وأهل الحق ممتحَنون بأهل الباطل، ولكن لا تنحرف هممهم عن الحق، اعتماداً عليه سبحانه وتعالى.
أي بني، اعلم أن الله تعالى خلق الدنيا، وجعلها دار المحنة، ومحل الأخطار والأشرار، ثم خلط فيها الأبرار والفجار، وأهل المحبة بأهل البطالة، ثم يقلبهم من حال النعمة إلى حال الشدة، ومن حال الشدة إلى حال النعمة، لإظهار مَن يعبده على بساط المحنة، ممن يعبده على بساط النعمة، ومَن يعبده على رؤية المُعطي، ممن


يعبده على رؤية العطاء.
قال الله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)(1) الآية، وفي الخبر إن الذهب ليجرَّب بالنار، والعبد الصالح ليجرَّب بالبلاء"(2) والحكمة في امتحان الله تعالى عباده الصالحين، إظهار ما في ضمائرهم من صدق الدعوى وكذبه، وحقيقة المعنى وبطلانه، ليكون فيه ظهور مرتبة الصديقين وافتضاح غيرهم.
أما ترى أنه لا يسع للحاكم أن يحكم للخصم على إحاطة علمه، في تصديق دعواه وبطلانه، من غير أن يظهر لغيره ذلك، قال تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا)(3) الآية، وقال تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)(4)، وقال الله تعالى: (ليُحق الحق ويبطل الباطل)(5)، ثم اختلفوا فقال بعض العلماء: من يعبده على بساط النعمة أولى ممن يعبده على بساط المحنة، لأن منزلة الشكر أفضل من منزلة الصبر، وذلك لأن الشكر على النعمة طاعةٌ على بساط الفراغة،

والصبر على الشدة طاعةٌ على بساط الشغل، وليس مَن عَبَدَ اللهَ فارغاً كمن عبده مشغولا.
وقال بعضهم: مَن يعبده على بساط المحنة أفضل، لأن الأنبياء أفضل مرتبة ممن دونهم(1)، فامتحن الله عامتهم بأنواع المحن والبلاء، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس بلاءً الأنبياء"(2) الخبر، وأن الكفرة هم أهون الخلق على الله، وعيش عامتهم بأنواع النعم، وليس مَن طلبه بنفي الحجاب كمن طلبه مِن وراء الحجاب، والشاكر يطلبه من وراء الحجاب، والصابر يطلبه دون الحجاب، والشاكر يطلبه على حظ نفسه، والصابر يعبده على حب ربه، والشاكر مفتخر بملكه، والصابر مفتخر بمليكه، والشاكر حبس نفسه مع النعمة، والصابر حبس قلبه مع المُنعم، والشاكر يقول: ما دامت النعمة معي لا أبالي إن أصابني ما أصابني، والصابر يقول: ما دام المنعم معي لا أبالي إن أصابني ما أصابني، قال الله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)(3) وإن الله تعالى أوجب للشاكر الزيادة، ونفى عن أجر الصابر النهاية، حيث قال: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)(4) وقال: (والله يحب الصابرين)(5).

أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: إني قدَّرتُ في أم الكتاب، أني إذا أحببت عبداً جعلته للبلاء غرضاً، وألبسته جلباب الفقر.
وفي الخبر: أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: قُل لأوليائي وأصفيائي وأهل محبتي، أن لا يدخلوا مداخل أعدائي، ولا يسكنوا مساكن أعدائي، ولا يَطعَموا (1) مطاعم أعدائي، فيكونوا أعدائي، كما أولئك أعدائي.
وقال وهب(2) إنا نجد في كتاب الله المنزل: أن عبادي المخلصين، كانوا إذا سلكوا طريق الشدة والبلاء فرحوا واستبشروا، ويقولون: الآن يتعهدنا ربنا.
وفي الحديث القدسي: أن البلاء أسرع إلى مَن يحبني من السيل إلى منتهاه(3). حكي أن ذا النون المصري سمع مريضاً يقول: أخ أخ، فقال: ليس هذا بصادق في حبه، فقال المريض: أنيني من وجدان اللذة، لا من وجدان الشدة.
وحكي أن فتحاً الموصلي(4)، أصابته الحمى فصلى ألف ركعة، شكراً لله على ذلك، وقال: أمثلي يذكره الله من فوق عرشه، وعلم أن لي ذنباً فأراد طهارتي. وقالت رابعة: ما عرفت البلاء منذ عرفت الله.
أي بني، الخَلق صنفان: وليّ وعدو, والحال حالان: شِدة ونعمة، فربما


تصل الشدة إلى الولي كرامة له، كما وصلت إلى الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وربما تصل اللذة إلى العدو خسراناً له، كما قال الله سبحانه: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر)(1) ربما تصل النعمة إلى الولي استدراجاً وتنبيهاً له، وربما تصل النعمة إلى العدو وهو حظه من الآخرة، كما قال الله تعالى: (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)(2).
ثم الابتلاء على نوعين: إكرام وإهانة، فكل بلاء يقربك من المولى فهو في الاسم بلوى، وفي الحقيقة زُلفى(3)، وكل بلاء يبعدك عن المولى فهو في الحقيقة بلوى، ألا ترى أن الله تعالى ابتلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان سبب ابتلائه الخُلة(4) والقُربة، وابتلى إبليس، وكان سبب ابتلائه اللعنة والفضيحة، فقال إبراهيم في البلوى: حسبي ربي، وقال إبليس: حسبي نفسي، فنودي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخُلة، ولإبليس باللعنة.

الحديث الثامن والثلاثون
[ صلة الرحم]

أخبرنا ابن عمي العبد الصالح السيد سيف الدين عثمان، قال: حدثني أبوك السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنور بالجانب الشرقي من بغداد، قال: حدثني ابن عمي السيد حسن، قال: حدثني السيد يحيى، قال: حدثني السيد ثابت، عن أبيه السيد علي الحازم، ويكنى بأبي الفوارس، عن أبيه السيد علي، عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي، عن أبيه السيد أبي القاسم محمد، عن أبيه السيد الحسن الرئيس، عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث، عن أبيه السيد أحمد الأكبر، عن أبيه السيد موسى، عن أبيه السيد إبراهيم المرتضى، عن أخيه الإمام علي الرضا صاحب طوس، عن أبيه الإمام موسى الكاظم، عن أبيه الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام زين العابدين علي، عن أبيه الشهيد المظلوم الإمام الحسين، عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله عنه، وعنهم أجمعين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا أُسري بي إلى السماء رأيت رحماً معلقة بالعرش تشكو رحماً إلى ربها أنها قاطعة لها، قلت: كم بينك وبينها من أب؟ قالت: نلتقي في أربعين أباً"(1).

وفي هذا الحديث الشريف من الإلزام للعبد بالرحمة، ما يقيد نفسه عن جموحها، إذا أدرك وكان من الموفقين، وقد بلغني عن بعض العارفين أنه كان يقول في مناجاته: إلهي بأرحام اتصلت، وبقلوبٍ بك اشتغلت.
أي بني، اعلم أن المحبين في طرائق العبودية، وأوقات المناجاة، على أصناف شتى، فمنهم من ناجاه على لسان الاعتذار، ومنهم من ناجاه على لسان التحير والاضطرار، ومنهم من ناجاه على لسان الطرب والافتخار، ولو علم أهل الغفلة ما فاتهم في كل نفس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في مناجاته: " إلهي إذ قرت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقر عيني بك، واقر عيني بلذائذ أنسك، والشوق إلى لقائك"(1)، وكذا يقول مَن يحب: يا خير مؤنس وأنيس، يا خير صاحب وجليس، طوبى لمن اكتفى منك بك، اللهم لبيك لبيك يا حبيب القلوب، لبيك يا سرور القلوب، لبيك لبيك يا منى القلوب، لبيك اللهم آليت بك عليك، أن لا تصرفني بك عنك، ولا تحجبني بك عنك.

إلهي لو دعوتني إلى النار لأجبتك، وافتخرت بك، فكيف وقد دعوتني إلى نفسك، إلهي إن قربتني منك، فمن الذي يبعدني، وإن أعززتني بك فمن الذي يذلني، وإن رفعتني إليك فمن الذي يضعني، إلهي مَن أرهب وأنت مولاي؟ ولمن أرجو وأنت مناي؟ وبمن أستأنس وأنت جليسي؟ فبك عليك أن تتفضل بإتمام فضلك، يا نعم المولى ونعم النصير، إلهي سِرِّي عندك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، وأنت بالجود معروف، وبالكرم موصوف.
إلهي أنت أنيس المستأنسين من أحبائك، ومأوى الموهوبين من أصفيائك، وجليس الملهوفين من أوليائك، إلهي ما أطيب معرفتك في قلوب العارفين، وما أحلى ذكرك في أفواه الذاكرين، وما أحلى مودتك في أسرار المحبين، إلهي أنت الذي لا تبطل أمل الآملين، لا يخفى عليك أحوال المريدين، ولا يخيب لديك رجاء المنيبين.
إلهي أنت سروري إذا نظرتُ منك إليك وأنت حسبي إذا استكفيتُ بك منك، وأنت أنيسي إذا نزلتُ منكَ بك، اللهم ارحم انقطاعي إليك، وانفرادي بك ووحشتي (1) عمن سواك، فيا خير مؤنس وأنيس، ويا خير صاحب وجليس، كن دليلي منك وإليك، إلهي اجعل أجلَّ العطايا في قلبي حياءك، وأعذب الكلام على لساني ثناءك، وأحب الساعات إليَّ ساعةً يكونُ فيها لقاؤك.
إلهي ما أوحش قلباً ليس فيه ذكرك، وما أخرب قلباً ليس فيه خوفك، وما أقل سروراً ليس في حبك، إلهي لا صبر لي في الدنيا عن ذكرك، فكيف أصبر في الآخرة عن رؤيتك؟
إلهي أشكو إليك غربتي في بلادك، ووحشتي بين عبادك، إلهي ما لمرادنا غيرك، ولا لبغيتنا دونك، وما لحاجتنا سواك، إلهي هذه لذائذ المناجاة، فكيف لذائذ


الملاقاة؟ إلهي هذا شكري، وشكر شكري، إلهي هذا سروري وسرور سروري، إلهي هذا ودي وود ودي، إلهي أُنسي بك أوحشني من خلقك، ومعرفتي بك تمنعني عن مناجاة غيرك.
إلهي كيف أشغل لساني بذكر غيرك، أم كيف أشغل بصري برؤية غيرك، أم كيف أشغل قلبي بحب سواك، وأنا لا أعرف غيرك؟ إلهي، على من أُثني وأنت وليي، ومَن أرجو وأنت مُناي؟ يا خير معروف مذكور، أعززتني بولاية معرفتك، فلا تذلني يا سيدي بعدها بمَن سواك، إلهي عجبت ممن يعرفك كيف لا يستغني عمن سواك، إلهي عجبتُ ممن أنس بك كيف لا يستوحش من غيرك؟
إلهي عجبت لمن أرادك كيف يريد سواك، إلهي هذا سروري بك في دار الفناء، فكيف سروري بك في دار البقاء؟ إلهي هذا سروري بك في قراطق(1) الخدمة، فكيف سروري بك في غلائل(2) النعمة؟ إلهي هذه لذائذ المحبة، فكيف لذائذ الرؤية؟ إلهي هذه لذائذ المؤانسة، فكيف لذائذ الزيارة؟ إلهي مَن لم يكن مسروراً بك فمن أي شيء يكون له سرور؟ إلهي سقيتني بكأس الحب حتى أسكرتني، فالحب يقتلني والشوق يُحرقني، إلهي أريتني حبك، فأرني وصلك، إلهي طال بك حسن ظني، على أن لا تردني خائباً فلا تخيب ظني بك، يا معروفاً بالمعروف، إلهي ليس لي عنك صبر، ولا فيك حيلة، ولا منك بد، ولا عنك مَهرب، ولا مع سواك أُنس.
إلهي أحييتني بمعرفتك، فلا تُمتني بنكرتك، إلهي أريتني وصالك، فلا تُرني فراقك، إلهي إن لم تفعل ما نريد، فصبرنا على ما تريد، إلهي فرِّغ قلبي لذكر


عظمتك، وأطلق لساني بوصف منتك، وقوني على شكر نعمتك، إلهي ارحمني فأنا عاجز عند النصب، جاهل بالسبب، حيران في الطلب، إلهي جعلت سبب ما تعطي رجاءك، وسبب ما يجمع بين أوليائك تأليفك بين قلوبهم.
إلهي فأعطني المرجو كما وهبت الرجاء، واجمع بيني وبين أوليائك، كما ألفت بين القلوب، كيف يفتقر مَن أنت حظه، أم كيف يستوحش من أنت أنيسه، أم كيف يذل من أنت حبيبه، أم كيف يحزن من أنت نصيبه؟ إلهي همك أبطل عني الهموم وحبك حال بيني وبين الرقاد، وشوقي إليك منعني اللذات، وأُنسي بك أوحشني عمن سواك.
إلهي أنت تُوالي مَن يعاديك، فكيف تُعادي مَن يواليك؟ إلهي معرفتي بك دليلي عليك، وحبي لك وسيلتي إليك، إلهي عرف المحبون كمال ربوبيتك، والمذنبون صنيعك، وكمال قدرتك، فاستسلموا وانقادوا لك، إلهي اجعلني ممن لا يتخذ دونك خليلاً، ولا يلتمس إلى سواك سبيلاً، ولا يرجو من غيرك فتيلاً(1). إلهي لا تجعلني ممن صرفت عنه وجهك، وحجبت عنه عفوك، وأغلقت عليه بابك، وقطعت عنه أسباب عصمتك، ووكلته إلى نفسه، إنك على كل شيء قدير.
قال مالك بن دينار: رأيت جارية متعلقة بأستار الكعبة تقول:
إليك جئنا وأنت جئت بنا
منكَ طلبنا وأنت تملِكنا
وليس شيء سواك يُحيينا
وليس شيءٌ سواك يؤتينا(2)



الحديث التاسع والثلاثون
[ نظر الولد إلى والديه]

أخبرنا شيخنا منصور الرباني رضي الله عنه، عن أبيه سيدي يحيى النجاري، عن سيدي أبي محمد الشنبكي الأنصاري ثم الحسيني الحسني، عن الشيخ أبي بكر بن هوار البطايحي، عن سيدي سهل بن عبد الله التستري، عن الشيخ ذي النون المصري، عن الشيخ إسرافيل المغربي، عن الإمام موسى الكاظم، عن أبيه الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام زين العابدين علي عن أبيه الإمام الحسين عن أبيه الإمام علي المرتضى رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نظر الولد إلى والديه عبادة" (1). قلت: وفي هذا الحديث الشريف، من إعظام شأن الحب لله، ما يرفع بهمم المحبين إلى الله، فإن النظر في الله عبادة، وكذلك أي بني،


فاعلم أن عالِمَ أسرار المحبين، والمطلع على همة المشتاقين، طيَّب الدنيا للعارفين بذكر الخروج منها، كما طيب الجنة لأهلها، بذكر الخلود فيها، ولا شيء أحب إلى المحب من لقاء المحبوب، ولولا الآجال التي كتبها الله على المشتاقين لماتت أرواحهم في أبدانهم، لشدة الاشتياق إليه.
قال أنس: قيل يا رسول الله، لو شاء الله أن يدوم البقاء لأوليائه في الدنيا، فقال: يأبى الله أن يجعل الخلود لأوليائه في الدنيا، بل اختار لأوليائه وأحبائه، ما عنده من جزيل كراماته، أما تعلمون أن الحبيب يشتاق إلى الحبيب، فطوبى لمن كان روحه وراحته في لقاء الله.
وحكي أن أبا هريرة قال لرفيق له: أين تذهب؟ فقال: أشتري شيئاً لأهلي، فقال أبو هريرة له: إن قدرتَ أن تشتري الموت لي فافعل، فإنه طال شوقي إلى ربي، وإن الموت أحب إليَّ من شرب الماء البارد للعطشان، وأحلى من العسل، ثم بكى بكاء شديداً، وقال: واشوقاهُ إلى مَن يراني ولا أراه، وغُشي عليه.
قيل لأويس (1) كيف أصبحت، قال: كيف يصبح مَن إذا أصبح لا يشتهي أن يُمسي، وإذا أمسى لا يشتهي أن يصبح، وطال شوقه إلى مُنى قلبه.
قال مالك بن دينار: كنت أسير في بعض حيطان البصرة، فرأيت شاباً مريضاً، أشعث أغبر، مستقبلاً للقبلة، يقول: قرة عيني طال شوقي إليك، وما آن أن ألقاك، فإلى متى تحبسني عنك؟ فقلت: يا شاب هذا الوقت الذي يطلب فيه الأحبة محبوبهم؟ فقال: الحبيب في كل الأوقات موجود، ليس بمفقود، بل هذا الوقت الذي تظهر الأحبة احتراقهم بحبيبهم، ويكشف المشتاقون كتمان سرائرهم، بهيجان نيران الاشتياق إلى مُناهم.
وحكي أن رجلاً من أهل البصرة، بكى على شوقه حتى ذهبت عيناه، ثم قال: إلهي إلى متى لا ألقاك؟ فبعزتك لو كانت بيني وبينك نار تلتهب، ما رجعت عنك بعونك وتوفيقك، حتى أصل إليك، ولا أرضى منك بدونك.


قيل: كان لفتح الموصلي ابنتان عارفتان فخرجتا إلى الحج، فلما وقعت أعينهما على البيت، قالت إحداهما للأخرى: يا هذه أهذا بيت ربي؟ فقالت الأخرى: نعم، فصاحت صيحة وماتت من ساعتها وقالت الأخرى: إلهي أشكو من نفسي إليك، وقد طال شوقي إليك آه آه آه، وتقولها حتى ماتت.
وقيل لأبي بكر الواسطي رحمه الله: ما حظيرة القدس؟ قال: هي حظيرةٌ جعلها الله لاستماع كلامه ومناجاته، والنظر إلى وجهه، حيث شاؤوا ومتى شاؤوا، وتلا قوله: ( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم)(1).
قال إبراهيم بن أدهم(2) دخلت جبل لبنان فإذا أنا بشاب قائم يقول: يا مَن قلبي له محب، ونفسي له خادمة، وشوقي إليه شديد، متى ألقاك؟ فقلت: رحمك الله ما علامة حب الله؟ قال: حب ذكره، قلت: فما علامة المشتاق؟ قال: أن لا ينساه في كل حال.
بعض أهل المعرفة حضرته الوفاة، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: كيف لا أبكي وأنا أبقى منك فرداً، قال: يا هذه أنا منذ أربعين سنة بكيت شوقاً إلى هذا اليوم، فإنه يوم وصلتي وأُلفتي وراحتي، فمرحباً به.
وحكي أن الحسن البصري رضي الله عنه حضرته الوفاة، وكانوا يلقنونه الشهادة، ففتح عينيه وقال: إلى متى تدعونني إليه وأنا محترق به منذ عشرين سنة.
وسئل سهل بن علي عن خفقان قلب الخليل، وأزيز قلب المصطفى صلى الله عليهما وسلم، فقال: خفقانه من الخوف، وأزيزه من الشوق.
وبكت رابعة العدوية عند موتها، وضحكت من ساعتها فقيل لها في ذلك، فقالت: أما بكائي فمن مفارقتي الذكر آناء ليلي ونهاري، وأما ضحكي فمن سروري بلقائه، وماتت من لحظتها.
ومرض أبو الدرداء رضي الله عنه فقيل له: ألا ندعو لك طبيباً يداويك؟


فقال: الطبيب أمرضني، طال شوقي إلى ربي، وإلى قرة عيني محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى إخواني الذين مضوا من قبلي، وإني أخاف أن أفرَّق عنهم.
وكان ذو النون يقول ليلةً إلى الصباح: المستغاث المستغاث، ثم دخله السكينة، فقيل له في ذلك، فقال: نظرت البارحة بعين السر، في ملاحظة الحق حتى بسط إلى بساط محبته، وغلبني الاشتياق إليه، فاستغثتُ إليه بالخروج من الدنيا، كما يستغيث أهل النار بالخروج منها، ثم نظرت إلى سرور المجتهدين في الدنيا، ومؤانسة المريدين في ظلم الليالي، وافتراشهم الجبهة بين يدي علام الغيوب بصفاء القلوب، فدخلتْ عليّ السكينة.
قال عقبة بن سلمة: ما من ساعة يكون العبد أقرب إلى الله من حين يخر ساجداً، وما من خَصلة في العبد أحب إلى الله من الشوق إلى لقائه. وفي الخبر: "نعم التحفة للمؤمن لقاء مولاه"(1). قال محمد بن يوسف (2) لو خيرت بين أن أعيش في الدنيا مائة سنة أعبد الله تعالى لا أعصيه طرفةَ عين، وبين أن أموت لاخترت الموت، قيل: ولم ذلك؟ قال: من شدة اشتياقي إليه.

الحديث الأربعون
[ التسبيح للرجال والتصفيق للنساء]

حدثنا شيخنا الشيخ القدوة علي الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي، قال: حثنا أبو الحسن محمد بن زرقويه، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن يحيى الطائي، قال: أخبرنا جد أبي علي بن حرب بن محمد الطائي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" (1) هذا الحديث يشير إلى الجِد في الأعمال والاستهلاك للحركات والسكنات في الله تعالى.
وقد ترى جماعة من العارفين، يضربون للإشارات في الحالات، ولذي الحضرات كفاً بكف، فإياك أن تظن أن إشارتهم هذه من التصفيق فتزلق، إنما هي استهلاك حركة لله، في حركة أخرى لله، فإنهم ماتوا بالله حالة كونهم أحياء


فلذلك أحياهم الله حالة كونهم أمواتاً.
أي بني، اعلم أن لله تعالى عباداً قد مُلئت قلوبهم بمحبة ربهم، ينتظرون الموت اشتياقاً إلى حبيبهم، ويكرهون طول المكث في هذه الدنيا، لا راحة لهم دون الخروج منها، وهم مغمومون بطول البقاء فيها، وشوقهم إلى الخروج أشد من شوق العطشان إلى الماء الزلال، فإذا قرب أجلهم أتاهم ملك الموت مع سبعين ألف ملك من الله بالتحية والسلام، كما قال تعالى: ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم)(1) الآية، وكذلك يجيء الملك للمؤمن على أطيب ريح، وأحسن صورة، فيقول المؤمن له: مرحباً لأي أمر جئت؟ فيقول له: لقبض روحك، على أي حال تحب أن أقبض روحك؟ فيقول: إذا كنت في السجود، فيفعل ذلك ملك الموت، فيأتيه حافظاه ويقول أحدهما لصاحبه: كان لنا صاحباً وأخاً قد حان له الفراق، فيقولان له جزاك الله خيراً، وغفر لك، فنعم الأخ كنت، لقد كنتَ أيسر مؤمن ونعم ما قدمتَ لنفسك: ( يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (2) بالروح (3) والراحة، وتقول روحه لجسده: جزاك الله عني خيراً، كنتَ تحب الخير وأهله، وتبغض الشر وأهله، أستودعك الله.
مُرَّ بجنازة على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه فقال: مستريح أو مستراح من نصب الدنيا، وإيذاء أهلها، فلقي رحمة الله عليه، والمستراح منه الفاجر، إذا ما استراح منه العباد والبلاد.
وقال مأمون السلمي رحمه الله: لما توفي أبو عبدالله بن مقاتل غسلناه وكفناه ودفناه، فهتف بنا هاتف من السماء: الحمدلله الذي أوصل الحبيب إلى الحبيب راضياً مرضياً.

وقال رجل من أصحاب أبي عبد الله: رأيته في المنام بعد موته كان يتبختر في حظيرة القدس، فقلت له: ما هذا التبختر يا أبا عبدالله، أليس قد نُهينا عنه؟ فقال: هذا مشي الخدام، في دار السلام، عند الملك العلاّم. ورؤي ذو النون بعد موته في المنام، فقيل له: ما حالك؟ قال: سألت الله أربع مسائل، فأعطاني اثنتين، وأنتظر اثنتين، فقيل: وما هن ؟ قال: قلت إلهي إن قبضتَ روحي فلا تكلني إلى ملك الموت، وإن سألتني فلا تكلني إلى منكر ونكير، وإن أهتني فلا تكلني إلى مالك، وإن أكرمتني فلا تكلني إلى رضوان.
وحكي أن داود العجمي (1) لما مات حمل إلى قبره، فإذا هو مفروش بالريحان، فأخذ الذي يدفنه شعبة من الرياحين، وكان الناس ينظرون إليها تعجباً سبعين يوماً لم يتغير حالها، فأشخص الأمير وأخذها من الرجل، ففُقِدت فلا يُدرى كيف ذهبت؟
وقال عمار بن إبراهيم: رأيت المسكينة الطاوية بعد موتها في المنام، وكانت تحب مجلس الذكر، فقلت: مرحباً يا مسكينة، فقالت: هيهات يا عمار، ذهبت المسكينة، وجاء الغنى، قلت: هنيئاً لك، فقالت: وما تسأل عمن أبيحت له الجنة بحذافيرها، قلت: بماذا؟ قالت: بمجالس الذكر، فقلت: فما فعل الله بعلي بن زادان؟ فضحكت وقالت: كساه حلة البهاء، وقيل له: يا قارئ اقرأ وارق.
وقال ابن أبي الحواري (2) رأيت الواصلي بعد موته في المنام، كأنه قائم في الهواء، وقد امتلأ الهواء من نوره، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: نعم المولى مولانا، غفر لنا وأكرمنا، وفعل بنا ما هو أهله، قلت له: أوصني، قال: عليك بمجالسة الذاكرين، فإنهم عندنا في الرفيع من الدرجات.

ولما حضر معاذاً الموت أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: ألحِقوني بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، ثم ضحك وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله الحمد لله ثم مات.
وحكي أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها، فصلت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سجدت فلم تزل تقول واشوقاه، فلم ترفع رأسها حتى ماتت. وقال جعفر الضبي: حضرت زيارة قبر مالك بن دينار، فقلت: ليت شعري ما فعل الله بمالك؟ فسمعت صوتاً من فوق مالك يقول: مالك نجا من المهالك، ومن وعثاء المسالك، وصار إلى دار السرور، بمجاورة الرب الغفور، فقلت: الحمد لله.
وقال ابن بكّار: صلينا الغداة يوماً بالمصّيصة(1)، فلما سلم الإمام قام رجل وقال: يا أيها الناس إني رجل من أهل الجنة، وإني أموت اليوم، فمن كانت له حاجة فليأت، فلما صلينا العصر مات الرجل في سجوده.
وحكي أن الحارث بن عمرو الطائي(2)، مرض بإرمينية فيوماً من الأيام، استقبل القبلة وصلى ركعتين، ثم قال في آخر سجوده: اللهم إن أسألك باسمك الذي هو قوام الدين، وبه ترزق العالمين، وبه تحيي العظام وهي رميم، إن كان لي خيرٌ عندك فعجل قبضتي، ثم سكت فحركوه فإذا هو ميت. وقال مالك بن دينار رضي الله عنه: كان لي رفيق، وكان والله من العارفين، فمرض فحضرته لأعوده، فإذا هو رافع طرفه نحو السماء، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني أحبك فبارك لي في لقائك، فلم يتم كلامه حتى مات.
وحكي أن رجلاً رأى مالك بن دينار رضي الله عنه كأنه في قصر معلق في الهواء بحيث لم يصف الواصفون حسنه فقال: ما فعل الله بك يا مالك؟ فقال: أنزلني ربي في هذا القصر كما ترى، وأباح لي أن أنظر إليه كلما اشتقت إلى رؤيته بلا كيف ولا شبيه،


والحمد لله رب العالمين. ولما حضرت الوفاة سيدي الشيخ منصور بكينا حوله فأفاق من غشيته وقال:
موت المحبِّ حياةٌ لا انقطاع لها قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ
ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى نحبه رضي الله عنه وعن عباد الله الصالحين أجمعين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://saydatar.ahlamontada.com
حامدالعربى
مرابط فى سبيل الله
مرابط فى سبيل الله



عدد المساهمات : 32
تاريخ التسجيل : 22/06/2012
العمر : 41

حالة أهل الحقيقة مع الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة أهل الحقيقة مع الله    حالة أهل الحقيقة مع الله  I_icon_minitimeالخميس 23 أغسطس 2012, 9:21 pm



، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"

(1) هذا الحديث يشير إلى الجِد في الأعمال والاستهلاك للحركات والسكنات

في الله تعالى.

وقد ترى جماعة من العارفين، يضربون للإشارات في الحالات

، ولذي الحضرات كفاً بكف،

فإياك أن تظن أن إشارتهم هذه من التصفيق فتزلق،

إنما هي استهلاك حركة لله، في حركة أخرى لله،

فإنهم ماتوا بالله حالة كونهم أحياء
ــــــــــــــــــــــ
أرأيتم السقفة اللى بيسقفها الشيخ فى الحضرة لتنظيم الحركة بالذكر

أرأيتم بعض معانى السقفة دى

طريق ساداتنا الصوفيى كله أسرار

اللهم فهمنا وعلمنا علم الأحرار الأتقياء الأخيار

بجاه حبيبك وأله وأصحابه
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى أله وأصحابه أجمعين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حالة أهل الحقيقة مع الله
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فذلكة الحقيقة في أحكام الطريقة
» التحصين البرهامي وخواطري
» من بعض صلوات السيد : محمود شجر رضي الله عنه على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
»  لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً بكرم الله الكريم
» فى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتاب الإيمان " "1"

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الرفاعي ســــــيـد أحــمــد الـعطـــار  :: زاوية الإمام الرفاعى ( الرفاعية )-
انتقل الى: